الحمد لله رب العالمين كتب الفناء على أهل هذه الدار، وجعل الجنة عقبى الذين اتقوا وعقبى الكافرين النار . خلق الموت والحياة ليبلوكم أيُّكم أحسن عملاً، جعل بعد الضيق فرجا وبعد الكرب سَعَة ومخرجاً. وأشهد ألا إله إلا الله تفرد بالدوام والبقاء، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله جاهد في الله حتى عرجت روحه إلى السماء صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن بهداهم اهتدى . أما بعد :- فالكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من اتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني ، والمسلم من استسلم للقضاء والقدر ، والمؤمن من أيقن بعظيم الأجر على المصيبة والضرر . (وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خيرٌ لكم ، وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شرٌ لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون) يقضي الله بوفاة قريب أو صديق أو حبيب فيعلم المسلم أنه لا راد لما قضى، و لا معقب لما حكم، فيفزع إلى ربه (إنما أشكو بثي وحزني إلى الله) فتسلح بالصبر ينتظر من ربه عظيم الأجر . (وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا : (إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون) مات لأحد السلف ابن فقيل له: احتسبه، فقال: مالي لا أحتسبه، وقد كان من زينة الحياة الدنيا، واليومَ هو من الباقيات . وصدق النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: " عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خيرٌ إن أصابته ضراء صبر، فكان خيراً له وإن أصابته سرَّاء شكر فكان خيراً له" . ثم اعلم يا عبد الله: أنَّ ذلك بقضاء الله وقدره (ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في السماء إلا في كتاب من قبل أن نبرأها) و " ما أصابك لم يكن ليخطئك " فالأمور مقدرة والآجال مكتوبة وتجري عليك المقادير وأنت مأجور خيرٌ من أن تجري عليك وأنت مأزور . ومن لم يصبر صبر الكرام سلا سلوَّى البهائم، والنعمة زائرة، والدنيا زائلة، والجزع لا يردَّ مكروهاً، فعليك بالاستعانة بالله والرضا به . ثم أنت أيها المصاب: تذكر المصيبة العظمى بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إذا أصيب أحدكم بمصيبة فليذكر مصيبته بي فإنها أعظم المصائب " صححه الألباني فإذا ذكرت مصيبة ومصابها فاذكر مصابك بالنبي محمد ومما يعين المصاب في مصيبته أن يتذكر أنَّ كل مصيبة تهون عند مصيبة الدين وكل كسر لعل الله جابره وما لكسر قناة الدين جبران من كل شيء إذا ضيعته عوض وما من الدين إن ضيعت من عوض فإذا سلم للإنسان دينه فكل شيء دونه وإن عظم . اعلموا أنَّ التعزية حقٌ عليك لأخيك المسلم وهي ثابتة من حين وفاة الميت، وليس كما يعتقده بعض الناس أنَّ التعزية لا تكون إلا بعد الدفن، وأنه لا تعزية بعد ثلاثة أيام بل التعزية هي لتقوية المصاب، وتسليته فتكون ما دامت المصيبة نازلة وأهلها منكسرون من وقعها . فيعزى المصاب قبل الدفن وبعده يعزى في بيته وعمله ومسجده وليس من السنة أن يجلس في بيته لاستقبال المعزين . قال جرير بن عبد الله رضي الله عنه " كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت وصنع الطعام بعد دفنه من النياحة " رواه الإمام أحمد . ومن بدع التعزية الضيافة من أهل الميت للناس ثلاثة أيام وصنع الطَّعام لهم . عباد الله : عظموا ما عظم الله ، واتعظوا بالموت فكفى به واعظاً قال جابر رضي الله عنه " مرَّ بنا جنازة ، فقام لها النبي صلى الله عليه وسلم : وقمنا ، فقلنا يا رسول الله إنها جنازة يهودي ، فقال : إذا رأيتم الجنازة فقوموا " ومن حقِّ الميت أن يصلي عليه إخوانه المسلمون ويدعوا له بالرحمة فيقف الإمام في صلاة الجنازة عند رأس الرجل، وعند وسط المرأة لا فرق في ذلك بين الصغير والكبير . ثم يكبر أربع تكبيرات يقرأ في الأولى بعد التعوذ الفاتحة بدون استفتاح للصلاة، وقراءة الفاتحة ركن فيها، وإن قرأ سورة قصيرة بعد الفاتحة فلا حرج ثم يكبر التكبيرة الثانية فيصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يكبر الثالثة ويدعو للميت بما يتيسر له، وإن دعا بما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم فهو أحسن ومن ذلك ما رواه عوف بن مالك قال صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على جنازة فحفظت من دعائه : " اللهم اغفر له وارحمه ، وعافه واعف عنه ، وأكرم نزله ، ووسع مدخله ، واغسله بالماء والثلج والبرد ، ونقه من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس ، وأبدله داراً خيراً من داره ، وأهلا خيراً من أهله ، وأدخله الجنة وقه فتنة القبر وعذاب النار " رواه مسلم . وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلَّى على جنازة يقول : " اللهم اغفر لحيينا وميتنا ، وشاهدنا وغائبنا ، وصغيرنا وكبيرنا ، وذكرنا وأنثانا ، اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام ، ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان ، اللهم لا تحرمنا أجره ، ولا تضلنا بعده " رواه مسلم والأربعة . ثم يكبر الرابعة فيقف قليلاً ثم يسلم ، وإن زاد خامسة فلا بأس بل من السنة أن يفعل ذلك أحياناً لثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم . أقول قولي هذا ... الحمد لله . أما بعد:- فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " من شهد الجنازة حتى يصلى عليها فله قيراط ومن شهدها حتى تدفن فله قيراطان قيل : وما القيراطان قال : مثل الجبلين " متفق عليه . وهذا الفضل الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم يشمل جنازة الصغير والكبير، بل إن الأفراط الصغار يدخلون في الحديث. وإذا تعددت الجنائز تعددت القراريط بعدد الجنائز فمن شهد جنازتين حتى تدفنا فله أربعة قراريط فلله الحمد على فضله، وعظيم أجره . ألا فيستحق إتباع الجنائز أن يكون جزءا من عملنا اليومي! لقد فرطنا في قراريط كثيرة! ومما ابتلي به بعض الناس تأخير الصلاة على موتاهم يؤخرونها اليوم واليومين وربما أكثر من ذلك لغير سبب صحيح، وهذا جناية على الميت وحبس له ، والميت إن كان من الصالحين فإنه يقول : قدِّموني قدموني !! والواجب عليهم المبادرة في ذلك فمن كان من أهله حاضراً فليصل عليه ومن لم يكن حاضراً فإنه يدعو له وهو في مكانه ، أو يصلي على قبره إن شاء بعد ذلك ، ومصلحة الميت مقدمة على مصلحة الحي . اللهم اغفر لموتى المسلمين والمسلمات .