الحمد لله العليم الخبير ، أحاط بكل شيء علماً ، وإليه المصير ، وأشهد ألا إله إلا الله . وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله البشير النذير والسراج المنير ما ترك خيراً إلا دلَّ عليه ولا شراً إلا حذَّر منه صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فأصغ رحمك الله- إلى ما حدَّثك به ربك، وبين لزومه في أصل خلقتك، (لتبلون في أموالكم وأنفسكم) ، (وَنَبْلُوكُم بِٱلشَّرّ وَٱلْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) . قال ابن عباس رضي الله عنهما: نبتليكم بالشدة والرخاء والصحة والسقم والغنى والفقر والحلال والحرام والطاعة والمعصية والهدى والضلالة، والمصائب والرزايا في الأموال؛ (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) أي: ليرجعوا إلى طاعة ربهم وينيبوا إليه ويتوبوا من معاصيه .
عباد الله: من منا لم يشتك شيئاً في بدنه، فهو معافى طيلة يومه وليلته، سليم في كل دهره . لا أظن ذلك لأحد من عباد الله، والبلاء سنة ماضية، والمرض ملازم للأبدان الفانية، وصفة للبنية الضعيفة، وكان الإنسان ضعيفاً. إلا أنه من رحمة الله أن الإنسان ينسى مرضه حين يشفيه الله، (وإذا مرضت فهو يشفين). ويخف عليه مرضه الملازم، ويهون عليه بعض تعبه حين يرى من هو أسوأ حالا منه، وأشد اعتلالا في صحته (انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض) وفي هذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (انظروا إلى من هو أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو أعلى منكم ...)
عباد الله : الصحة مغنم قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم (اغتنم خمساً قبل خمس ، وذكر منها : صحتك قبل سقمك) والصحة نعمة يغبن فيها الصحيح، قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم : (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ) فهل من وصية للصحيح قبل السقم، وللمعافى قبل البلاء. أجل أيها الصحيح المعافى يا من يقوم على قدميه، ويحرك أطرافه، ويحمل ما يشاء بيديه، سلم من علاج لأمر في باطنه، وآخر يسكن به وجعاً في جنبه أو صداعاً في رأسه. يا من يتخير من الطعام ما يشتهي، وفي بدنه مناعة إلاهية فلا يضره حر، ولا يعوقه ريح أو قر . الوصية لك بتقوى الله في هذه الصحة، فالزم الطاعة، واستغل العافية، ثم كف عن المعصية، واحم جوارحك عن سوقها إلى ما لا يرضاه الله لك، فيجدك حين نهاك، غير مبال بحرمة الله، جاعلاً الله أهون الناظرين إليك . فهذا حق هذه النعمة بالصحة فهل أنت لحقها من المؤدين، ولقدرها من العارفين . أما أنت أيها المريض فطيب عيشك إنما هو بالصبر والاحتساب، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (من يرد الله به خيراً يصب منه) رواه البخاري . فتفاءل خيراً تجده . و (ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه) رواه البخاري . وفي الحديث الآخر (ما من مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه إلا حط الله به سيئاته كما تحط الشجرة ورقها) متفق عليه . وفي المرض من الحكم والفوائد التعبد لله بعبودية الضراء وهي الصبر، وقد قال الله تعالى (وَبَشّرِ ٱلصَّـٰبِرِينَ ٱلَّذِينَ إِذَا أَصَـٰبَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رٰجِعونَ أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوٰتٌ مّن رَّبْهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ ٱلْمُهْتَدُونَ) قال ابن عمر رضي الله عنه: (كل ما ساءك فهو مصيبة) . ومن أعظم فوائد المرض أنه سبب لدخول الجنة، فالجنة سلعة الله الغالية التي لا تنال إلا بما تكرهه النفس، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (حفت الجنة بالمكاره) وفي صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى يقول (إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه أي عينيه فصبر عوضته منهما الجنة).
ومن فوائد المرض أنَّ المرض يرد العبد الغافل إلى ربه، الشارد عن ذكره، فلا يزال المرض يذكره بمولاه بعد أن كان غافلاً عنه ويكفه عن معصيته وهواه بعد أن كان منهمكًا فيها، فإن العبد متى كان صحيحًا معافى سعى في ملذاته وشهواته وأقبل على دنياه ونسى مولاه قال الله تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلنَا إِلَىٰ أُمَمٍ مّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَـٰهُمْ بِٱلْبَأْسَاء وَٱلضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ) . وقال تعالى (مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِٱللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَٱللَّهُ بِكُلّ شَىْء عَلِيمٌ) . قال علقمة في تفسير الآية: "هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم " قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "مصيبة تقبل بها على الله خير لك من نعمة تنسيك ذكر الله". وقال بعض السلف : "إن العبد ليمرض وماله عند الله من عمل خير فيذكره الله سبحانه بعض ما سلف من خطاياه فيخرج من عينه مثل رأس الذباب من الدمع من خشية الله فيبعثه الله مطهرًا أو يقبضه مطهرًا " . لأنَّ الصحة قد تدعو إلى الأشر والبطر وقد يغره نشاطه وقوة بأسه، ثم يأتي المرض فتتجاذبه الآلام فتنكسر نفسه ويرق قلبه ويطهر من سيء أخلاقه، وقبيح صفاته، فهو المتواضع المتسامح يطول صمته، ويكثر ذكره . قال العلامة ابن القيم رحمه الله: "لولا محن الدنيا ومصائبها لأصاب العبد من أدواء الكبر والعجب والفرعنة وقسوة القلب ما هو سبب هلاكه عاجلاً وآجلاً، فمن رحمة أرحم الراحمين أن يتفقده في الأحيان بأنواع من أدوية المصائب تكون حمية له من هذه الأدواء ".
ومن فوائد المرض أن الإنسان يفتح باب الدعاء بينه وبين الله فهو يقوم من آخر ليلة، يطيل سجوده، تعلق قلبه بالمساجد، يسأل عن أوقات الإجابة يتحرى جوامع الدعاء، وأفضل المناجاة ثم بالمرض سوف يعيد نظام حياته، سوف يتفقد ذوي الحقوق عليه، يطلب المسامحة ممن ظلمه، يحسن إلى من قد أساء إليه، والحسنات يذهبن السيئات . يسارع في قضاء ديونه، وتوثقة ما لا يستطيع قضاءه من حقوق الناس فلا يدري من يخلفه عليها . وهو حسن الظن بالله يعلم أن هذه الأمور لا تقرب بعيداً ولا تقصي قريباً ولكن المؤمن كيس فطن، تنبه حين نبهه ربه بعلة بدنه . ومن حسن ظنه بالله أنه يتعبد لله بمداواة علته فهو ينشد الدواء النافع والطبيب الماهر على أنها أسباب هيأهم الله ولا شافي إلا الله . وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (تداووا عباد الله، ولا تتداووا بحرام، فإن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرَّم عليكم) ومن التداوي أن يرقي نفسه كما هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم، ولن تجد أخلص لنفسك من نفسه، ولم يخلق الله قوماً للرقية دون آخرين . وأعظم رقية يرقي بها الإنسان نفسه كلمات الله من المعوذات، وآية الكرسي، وغيرها، وقال النبي صلى الله عليه وسلم عن الفاتحة: (إنها رقية) وهو مع ذلك قد ملأ قلبه بقوله تعالى (وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير) فاللهم أسبغ علينا لباس الصحة والعافية، واجعل ذلك عوناً لنا على طاعتك .
الثانية:
أما بعد :- إن من الأمراض التي يرجى لأصحابها عظيم الأجر والمثوبة، تلك الأمراض النفسية ومن ابتلى بها فهم في شدة وعناء ، ومن مصارعتها في محنة وبلاء . وهي من مكيدة الشيطان في وسوسته في صدور الناس من الأهل والأقارب، والأصدقاء وبعض الأبناء . تلك الوسوسة القديمة قدم البشرية ، تعرض لها أبوهم آدم عليه السلام يقول الله تعالى (ويا آدم اسكن أنت وزجك الجنة فكلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين فوسوس لهما الشيطان ...) فكيده بالوسوسة! والحمد لله الذي ردَّ كيده إلى الوسوسة . وإن من أعظم علاج للوسوسة ذكر الله قال النبي صلى الله عليه وسلم : عن الحارث الأشعري (فإنَّ العبد لا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله) رواه أحمد وغيره وصححه ابن القيم ، وحسنه ابن كثير ، وصححه الألباني . الاستعاذة بالله من شره ، يقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم (وقل ربي أعوذ بك من همزات الشياطين وأعوذ بك ربي أن يحضرون) فعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (يأتي الشيطان أحدكم فيقول : من خلق كذا ؟ من خلق كذا ؟ حتى يقول : من خلق ربك ؟ فإذا بلغه فليستعذ بالله ولينته) متفق عليه . عدم الاسترسال في الوسوسة وقطع خواطره ، فلقد أجمع الشرعيون والنفسانيون أن أول علاج وأعظم علاج للوسواس هو نرك الاستجابة للوسواس، ولذا أرشد عليه السلام من ابتلى بشيء من ذلك أن يقول: (آمنت بالله ورسله) وفي رواية (فقولوا الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد ثم ليتفل عن يساره ثلاثاً وليستعذ من الشيطان) حديث حسن رواه أبو داود. وذلك أن العبد لا يخلو إما أن يكون فكره في أمر آخرته وأسباب سعادته عند ربه ، أو في أمر دنياه وقضاء مصالحه . وما عدا ذلك ترددات قلبية ووساوس وأماني باطلة تقضي على وقته وتذهب طمأنينة حياته فواجب على الإنسان أن يدافع ويسعى في الخلاص منها ؛ ولذا شرعت صلاة الاستخارة ليقطع الإنسان بها تردده لينقلب بعدها حازماً عازماً متوكلاً على الله (فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين) . ومما يعينك على عدم الاسترسال مع الوساوس أن تنشغل بما ينسيك تلك الوساوس تنشغل بعمل صالح من صلة رحم أو زيارة مريض أو مصلحة دنيوية فالفراغ مرتع للوساوس والخواطر . وإنَّ من الوسوسة ما يعالج بالأدوية الحسية والعقاقير الطبية وكل هذه أسباب وما أنزل داء إلا وقد أنزل له شفاء . ومن رحمة الله أنَّ الله قد عفا عن الموسوس ما يجده في نفسه سواء في أمر صلاته أو طهارته أو تشكك في نيته أو تردد في طلاق زوجته، أو في أيمان عقدها وأكثر منها يقول النبي صلى الله عليه وسلم : (إنَّ الله تجاوز عن أمتي ما حدَّثت بها نفسها ما لم تعمل أو تتكلم) والمجاهد نفسه عن الوسواس الصابر على ما يجده موعود بالأجر (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب) . فاللهم اذهب عن نفوسنا وساوسها، وارزقنا الطمأنينة في قلوبنا ، وأعذنا من نزغات الشياطين ....