الحمد لله جعل في أخبار السابقين عظة للمتأملين ، وخص منهم الأنبياء والمرسلين .
ففي قصصهم عبرة لأولي الألباب ، ليحيي من حيَّ عن بينة ويهلك من سبق عليه الكتاب .
وأشهد ألا إله إلا الله رب الأرباب وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أمر بالتوكل مع أخذ الأسباب .
صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الحساب .
أما بعد :-
فحيث تتوجه القلوب والأبدان إلى بيت الله الحرام، قاصدين مكة والمشاعر، راغبين في الطواف والسعي، مؤملين مثوبة من ربهم، سائلين خلاصاً من ذنوبهم.
فهم إلى بقاع طاهرة جدوا سائرين، وإلى أماكن نزلها الأنبياء قبلهم مرتحلين، فهناك الكعبة المشرفة بناها إبراهيم الخليل، وأذن في الناس أن حجوا بيت ربكم الجليل .
فما تاريخ البيت، وما قصته وأي عبر تتصيدها القلوب قبل الأسماع ؟
فخطبتنا في جمعتنا هذه إن شاء الله عن رحلة تاريخيه فارع سمعك ما حدَّث به ابن عباس رضي الله عنه وهو الصحابي الثقة الحافظ لما ينقله فاستمع ...
عن سعيد بن جبير قال ابن عباس : جاء إبراهيم عليه السلام بابنه إسماعيل عليه السلام وأمه هاجر وهي لا تزال ترضع وليدها فالرحلة طويلة شاقة من الشام حتى أرض الحجاز فحط رحله عند دوحة شجرة كبيرة وليس في ذاك المكان يومئذ أحد وليس به ماء .
وضعهما هناك إسماعيل وأمه ووضع عندهما جرابا فيه تمر وسقاء فيه ماء .
ثم قفل إبراهيم منطلقا فتبعته أم إسماعيل فقالت يا إيراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيء ؟
فقالت له ذلك مرارا وجعل لا يتلفت إليها حتى قالت له آلله الذي أمرك بهذا ؟
قال نعم قالت إذن لا يضيعنا ثم رجعت فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت ثم رفع يديه ودعا قائلا : ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون)
دعوات صادقة لا يملك غيرها ليقدمها عزاء لنفسه وهو ينفذ أمر ربه في ترك رضيع مع أمه .
فلتأخذ هذه الدعوات مداها ، ولننظر في حفظ الله لمن حفظه في أهله وولده .
جعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل وتشرب من ذلك الماء حتى إذا نفد ما في السقاء عطشت وعطش ابنها .
وبلغ العطش فيه مبلغاً صعباً فجعلت أمه تنظر إليه وهو يتلوى من شدة حرقته .
فشق على الأم أن تنظر إليه وهي لا حول لها ولا قوة في أمره . مكان خال ورضيع جائع عطش .
فانطلقت كراهية أن تنظر إليه فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها فقامت عليه ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدا فلم تر أحدا فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها أي : ثوبها ، ثم سعت سعي الإنسان المجهود حتى إذا جاوزت الوادي ثم أتت المروة فقامت عليها ونظرت هل ترى أحدا فلم تر أحدا ففعلت ذلك سبع مرات .
قال ابن عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم ( فذلك سعي الناس بينهما ) .
فلما أشرفت على المروة سمعت صوتاً غريباً ثم تسمعت فسمعت فأيقنت أنَّ فرجا ينتظرها يحيي الله به رضيعها ونفسها .
فإذا هي بالملَك عند موضع زمزم فبحث بعقبه أو بجناحه فحفر حتى ظهر الماء فجعلت تحوضه ، أي تجمعه بيدها حتى يكون كالحوض . وجعلت تغرف من الماء في سقائها وهو يفور بعد ما تغرف .
قال ابن عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم ( يرحم الله أم إسماعيل لو كانت تركت زمزم - أو قال لو لم تغرف من الماء - لكانت زمزم عينا معينا ) .
قال فشربت وأرضعت ولدها فال لها الملك لا تخافوا الضيعة فإن ها هنا بيتَ الله يبنيه هذا الغلام وأبوه وإن الله لا يضيع أهله .
وكان مكان البيت مرتفعا من الأرض كالرابية تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وشماله .
ثم لم تزل أم إسماعيل على خير حال مع رضيعها ، حتى مرت بهم رفقة من جرهم مقبلين فنزلوا في أسفل مكة فرأوا طائرا عائفا فقالوا إن هذا الطائر ليدور على ماء لعهدنا بهذا الوادي وما فيه ماء .
فأرسلوا من يستكشف الخبر فإذا هم بالماء فرجعوا فأخبروهم خبر الماء .
فأقبلوا حتى وقفوا على أم إسماعيل عند الماء فقالوا أتأذنين لنا أن ننزل عندك ؟ فقالت نعم ولكن لا حق لكم في الماء، قالوا : نعم .
قال ابن عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم ( فألفى ذلك أم إسماعيل وهي تحب الأنس ) . فنزلوا وأرسلوا إلى أهليهم فنزلوا معهم حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم وشب الغلام وتعلم العربية منهم ، وأعجبهم حين شب فلما أدرك زوجوه امرأة منهم .
فجاء إبراهيم بعد ما تزوج إسماعيل وماتت أمه جاء ينظر يطالع تركته . فلم يجد إسماعيل فسأل امرأته عنه فقالت خرج يبتغي لنا الرزق ، ثم سألها عن عيشهم وهيئتهم فقالت نحن بشر وضيق وشدة فشكت إليه .
قال إبراهيم : فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام وقولي له يغير عتبة بابه فلما جاء إسماعيل كأنه آنس شيئا فقال هل جاءكم من أحد ؟ قالت نعم جاءنا شيخ كذا وكذا فسألنا عنك فأخبرته وسألني كيف عيشنا فأخبرته أنا في جهد وشدة قال فهل أوصاك بشيء ؟ قالت نعم أمرني أن أقرأ عليك السلام ويقول غير عتبة بابك ،
قال ذاك أبي وقد أمرني أن أفارقك الحقي بأهلك فطلقها وتزوج منهم امرأة أخرى فلبث عنهم إبراهيم ما شاء الله ثم أتاهم بعد فلم يجده فدخل على امرأته فسألها عنه فالت خرج يبتغي لنا قال كيف أنتم ؟ وسألها عن عيشهم وهيئتهم فالت نحن بخير وسعة وأثنت على الله .
فقال ما طعامكم ؟ قالت اللحم . قال فما شرابكم ؟ قالت الماء . قال اللهم بارك في اللحم والماء . قال النبي صلى الله عليه وسلم ( ولم يكن لهم يومئذ حب ولو كان لهم حب لدعا لهم فيه ، قال فهما لا يخلو عليهما أحد بغير مكة إلا لم يوافقاه . قال فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام ومريه يثبت عتبة بابه فلما جاء إسماعيل قال هل أتاكم من أحد ؟ قالت نعم أتانا شيخ حسن الهيئة وأثنت عليه فسألني عنك فأخبرته فسألني كيف عيشنا فأخبرته أنا بخير ، قال فأوصاك بشيء قالت نعم هو يقرأ عليك السلام ويأمرك أن تثبت عتبة بابك قال ذاك أبي وأنت العتبة أمرني أن أمسكك ثم لبث عنهم ما شاء الله ثم جاء بعد ذلك وإسماعيل يبري نبلا له تحت دوحة قريبا من زمزم فلما رآه قام إليه فصنعا كما يصنع الوالد بالولد والولد بالوالد ، أي اعتنقه وقبله ، ثم قال إن الله أمرني بأمر قال فاصنع ما أمر ربك قال وتعينني ؟ قال وأعينك قال فإن الله أمرني أن أبني بيتا ها هنا بيتا وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها .
قال فعند ذلك رفعا القواعد من البيت فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر فوضعه له فقام عليه وهو يبني وإسماعيل يناوله الحجارة وهما يقولان (ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم)
فجعلا يبنيان حتى يدورا حول البيت وهما يقولان : (ربنا تقبل منا إنك السميع العليم) .
الحمد لله ...
أما بعد :-
فقصة أبينا إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام قصة تشدُّ السامعين .
فيها من معالم التقوى والتوكل على الله الشيء الكثير .
فإبراهيم عليه السلام ترك ولده الرضيع وأمه بوادي غير ذي زرع !!
لا يحدوه إلا الثقة بالله ، والتوكل عليه .
نعم هو تلقى وحي الله في ذلك .
ولكن للنفس نزعات حتى إنه لم يستطع أن ينظر إليهما وهو منصرف عنهما فنازع نفسه فغلبها طاعة لله .
وهذا ما نحتاجه عباد الله مع نفوسنا تجاه ما أمر الله به أو حرَّمه علينا فالنفوس تدعو والشيطان يؤز ولا بدَّ من تغلب على هذا كله بتقوى الله والاستعانة على طاعته ، والصبر عن محارمه .
(يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم) .
الحياة الطيبة هي بتحقيق طاعة الله بالعمل الصالح (من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحييينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون) .
ومن عبر هذه القصة تلك الصلة التي يقوم بها الأب لابنه على بعد المسافة وكلفة النقلة وتفقد حاله وإبداء المشورة الصادقة في حياته الزوجية .
فكان من ثمار تلطف الأب طاعة الابن في مواقف عظيمة فقد أطاعه في أصعب موقف على النفس حينما رأى إبراهيم عليه السلام أنه يذبح ابنه فكانت طاعة الابن تسابق الخبر (يا أبتي افعل ما تؤمر)
ثم في تحقيق أمر الله ببناء البيت حتى صار بناء البيت مقترنا باسم هذين النبيين الكريمين (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل) .
ثم لا يغيب في هذا الحدث صدق الرغبة من الأب وابنه فيما عند الله (ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم) .
أما أخبار أم إسماعيل هاجر فهي المرأة العاقلة لما علمت أنَّ الأمر ببقائهما في الوادي أمر إلاهي لم تطل النقاش فهو درس في عدم التقدم بين يدي الله فافهموه وانقلوه إلى نسائكم حتى لا يبدين ويعدن فيما ورد النهي عنه في شأن من شؤونهم لباسهن أو خروجهن أو دخولهن .
أما سعيها تطلب الغوث لرضيعها فما مشروعية السعي بين الصفا والمروة في الحج أو العمرة إلا لإحياء تلك الذكرى في النفوس لتنشط في الالتجاء إلى الله عز وجل في كل حال .
وأنَّ الله مغيث كل مستغيث .
فاصدقوا اللجأ إلى الله وتوجهوا بصدق إليه فالذي أغاث أم إسماعيل قادر على أن يغيث الناس أجمعين ، متى ما تحققت طاعتهم لرب العالمين . فاللهم أصلح لنا ديننا ...
نقاط الخطبة :-
1 قصة مهاجر إبراهيم عليه السلام بإسماعيل وأمه .
2 - أصل السعي وتفجر ماء زمزم .
3 زيارة إبراهيم لابنه إسماعيل الأولى والثانية .
4 - بعض عبر القصة .