• ×

د.عبدالرحمن الدهش

تفسير سورة التين

د.عبدالرحمن الدهش

 0  0  27.1K
زيادة حجم الخط مسح إنقاص حجم الخط
تفسير سورة التين

هذه السورة سورة التين.. وربما سميت بالواو فقيل سورة والتين..
أما هي من حيث النزول.. فهي مكية.. كسابقتها وفي بعض التفاسير.. كتفسير القرطبي.. أنها مدنية فذكر بعضهم أنها مدنية.. ولكن هذا على خلاف المشهور.. فالمشهور وبعضهم يذكر أنه لا خلاف أنها مكية..
ثم موضوع السورة.. يؤيد أنها مكية..
الآية الأولى:
قال الله تبارك وتعالى: (والتين والزيتون)..
هذا قسم.. فأقسم الله تعالى بالتين والزيتون.. والتين.. والزيتون.. نباتان معروفان, يؤكلان.. فهل المراد ذات النباتين.. بمعنى أن الله أقسم بالتين ذلك النبات المعروف الذي يؤكل, والزيتون النبات الذي يُعصر.. فأقسم الله تعالى بهما لما فيهما من الخواص الغذائية!!!
هذا قول للسلف.. أن قسم الله عز وجل بهاتين الفاكهتين: التين والزيتون.. وهذا يُروى عن جملة من السلف.
يُروى عن كثير من تلاميذ ابن عباس رضي الله عنه أنهم وقفوا مع الظاهر..
يُروى هذا عن قتادة وكذلك مجاهد وعكرمة أنهم قالوا: إن التين والزيتون على ظاهرهما..
هناك قول آخر.. هو للسلف أيضاً وهو أن التين والزيتون لا يُراد بهما ذات الفاكهة والنبات المعروف.. وإنما في ذلك إشارة إلى مكان نباتهما وخروجهما.. وهما ينبتان في بلاد الشام.. وبعضهم يُحدد يقول: دمشق وفلسطين وكلها من بلاد الشام..
وهذا القول الثاني يُذكر ويُروى عن كعب الأخبار رحمه الله وعليه كثير من المفسرين.. وأن الآية تشير إلى مكان نباتهما.. لكن:-
لاحظ أيضاً.. أن الذين قالوا أنها تشير إلى مكان نباتهما لا يعنون الشام لمجرد الشام, ولكن يريدون الشام حيث جعله الله تعالى مكاناً لكثير من أنبيائه لا سيما أنبياء بني إسرائيل فإنهم كانوا في الشام.. وآخر أنبياء بني إسرائيل عيسى بن مريم عليه السلام -.
إذن: الآية تشير إلى هذا المعنى: أنها تشير إلى بلاد الشام لكونها موطناً لبني إسرائيل أو لأنبياء آخرين، لكن أنبياء بني إسرائيل بالدرجة الأولى..
هذا القول الثاني.. وأن الآية تشير إلى مكان الشام يُؤَيد بأن الله تعالى ذكر بعد ذلك أماكن.. فقال:
(وطور سنين وهذا البلد الأمين) إذن هذا القول الثاني يترجح..
يترجح بأي شيء؟
يترجح بالسياق..
وهذه قاعدة أيضاً ينبغي أن تعتني بها..

قاعدة..
أن التفسير.. ربما يترجح بدلالة السياق..
إذن.. نعود فنقول: إن في الآية الكريمة قولان والمرجح منهما الثاني.. بدليل سياق الآيات..
ألا يمكن أن نطبق قاعدة أخرى مرت علينا.. وهي
قاعدة:-
أن الآية تُحمل على المعنيين..
ما دام ليس بينهما اختلاف..
نقول: ممكن هذا.. فنقول:-
أن الله تعالى.. أقسم بالتين والزيتون ذلك النبات المعروف.. وهي أيضاً متضمنة القسم بالإشارة إلى أماكنها وأماكن خروجها..
فلا مانع: - أن يكون القسم في الأصل بالنبات.. لكنه يُشير إلى المكان الذي يخرج فيه..
قال الله تبارك وتعالى: (والتين والزيتون)
الآية الثانية:
ثم قال: (وطور سينين (2) )
هذا من جملة ما أقسم الله تعالى به..
فأقسم بالطور فقال: (وطور سينين) ..
والطور.. هو الجبل الذي كلم الله تعالى من عنده موسى وأشار الله تعالى إلى ذلك في أكثر من آيه.. منها قوله تعالى (وما كنت بجانب الطور إذ نادينا) والخطاب للنبي عليه الصلاة والسلام -.. إذن هذا هو المقصود بالطور الجبل..
أما مكانه.. فكما قال الله تعالى (طور) (سينين) فمكانه في سينين.. التي تُلفظ أحياناً بسيناء..
ومكانها معروف.. في شمال البحر الأحمر.. عندما يسمى بخليج السويس وخليج العقبة.. ذلك المكان هو سيناء..
وفيه الجبل الذي كلم الله تعالى منه - موسى عليه السلام إذن.. هذا المكان محلُ قسم الله عز وجل ثم.. مكان ثالث..
الآية الثالثة:
قال:-
(وهذا البلد الأمين ( 3) )
والمراد بالبلد هنا.. مكة.. كما هو واضح, وكما هو منقول عن السلف.. هذا البلد الأمين..
ووصف الله تعالى هذا البلد بأنه (الأمين) يعني.. الذي جعله آمناً، وجعله أمناً..
(الأمين) هنا.. هل هو وصف شرعي أو وصف كوني قدري؟
- إذا قلت أنه وصف شرعي.. له معنى..
- إذا قلت أنه وصف كوني قدري.. له معنى آخر..
لا شك أن:
الوصف هنا.. وصف شرعي.. يعني أن الله تعالى.. جعل هذا البلد أميناً
أي جعله آمناً.. وصف شرعي
ولا يصح أن يكون وصفاً كونياً قدرياً.. لا يصح.. لأنه لو كان ذلك لو كان وصفاً كونياً قدرياً.. لوجب أن يكون البلدُ آمناً دائماً.. ولا يمكن بحال من الأحوال أن ينتابه خوف, أو أن يتجرأ عليه من يخيفه.. أو يُخيف أهله.. والأمر ليس كذلك..
فإن.. البلد آمن.. أمناً شرعياً لكن انتاب أهله ودخل فيه من يخيفه, ومن فعل فيه الفساد, وفعل فيه القتل.. معروف هذا على مَرّ التاريخ..
ومن أعظم ما تعرض له البلد الأمين من الخوف ما حصل على أيدي من يسمون القرامطة (الرافضة).. فالقرامطة تعرضوا للبلد الأمين وقتلوا فيه من قتلوا, وأثاروا الرعب, وتعرضوا للكعبة وقلعوا منها الحجر الأسود, وأخذوه إلى ديارهم.. حصل في ذلك مفسدة عظيمة مذكورة في كتب التاريخ.. مشهورة.
أعود فأقول:
إن قوله تعالى: (وهذا البلد الأمين)،الأمين هنا.. وصف شرعي.. وعرفت لماذا قلنا شرعي وليس كوني.. ثم.. يأتي:-

جواب القسم..

الآية الرابعة:

قال الله تعالى:-
(لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ( 4))
الإنسان.. هنا يُراد به الجنس.. فإذا كان كذلك فإنه يشمل المسلم والكافر..
خلق الله تعالى الإنسان في أحسن تقويم..
معنى قوله تعالى (في أحسن تقويم) يعني: في أتم خلق..
فالتقويم هنا يراد به الخلق..
يعني أن الله تعالى جعل خِلْقَته قيّمة, على أتم حال.. هذا وصف الإنسان.. أن الله تعالى خلقه في أحسن تقويم.. وهذا تجده في نفسك.. فإن الله تعالى خلق الإنسان على خلقة تامة, جعله منتصباً, قائماً, ليس كغيره من المخلوقات التي تمشي منكبة وتمشي على أربع, بل جعله قائماً.. منتصباً, كذلك أيضاً إذا تأملت في أطرافه.. وجدتها أنها في أحسن تقويم, وأن الله تعالى أعطاها من الإمكانية وسهولة الحركة, وسهولة الرفع والتنزيل أشياء كثيرة.. ويتبين لك أن هذه الخلقة في أحسن تقويم لو تخيلت ضد ذلك.. لو تخيلت مثلاً أن اليدين على صفة ثانية, أو أنه في جزء آخر من البدن.. لتبين لك:-
أن هذه الخلقة القويمة.. تتغير أو تتعطل المصالح وتَحَلُّ المفاسد..
على كل حال.. لسنا بصدد الوقوف على حكمة الله تعالى في خلق الإنسان, لكنها كما أخبر ربنا عز وجل في أحسن تقويم..
وقد تكلم ابن القيم رحمه الله تعالى على هذه الخِلْقة وصار يفصل تفصيلاً بديعاً, لو كانت اليد في كذا لو كانت الرجل في كذا لو كان كذا في كذا, ثم يذكر كلاماً نفيساً حول أحسن تقويم تجد هذا في كتابه الماتع:
مفتاح دار السعادة..
فإنه:- عقد مبحثاً لهذا = لخلقة الإنسان وأنها في أحسن تقويم, قال الله تعالى (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم) هذا جواب القسم..
قال:-
الآية الخامسة
(ثم رددناه أسفل سافلين (5) )
ردّه الله تعالى أسفل السافلين..
وفي هذا خلاف..
ما المراد بقوله (أسفل سافلين) ؟
هل هذا في الدنيا أو في الآخرة..
المسألة فيها قولان مشهوران:-
1- فقد قيل إن الآية تتكلم عن الإنسان في الدنيا.. خلقه في أحسن تقويم في الدنيا, ثم رده أسفل سافلين في الدنيا..
قالوا: أن المراد بأسفل سافلين في الدنيا أنه يُرَدُّ إلى أرذل العمر, فيفوته كثير من حسن تقويم الخلقة الأولى.. بحيث تفوته قوته الأولى.. فبدلاً من كونه مثلاً يمشي قائماً.. لا يستطيع ذلك.. يمشي مثلاً حبواً أو بما هو أردى من هذا..
كذلك ما يتعلق بقوته.. بأخذه وعطاءه..
كذلك بقوته الفكرية وذاكرته..
كل هذا ينتقل, ويُرَدُّ إلى أسفل سافلين..
هذا معنى الآية في القول الأول.. وهو أنه ردُّ لِخلْقته.. في الدنيا
القول الثاني في الآية:-
قالوا: إن الآية الكريمة لا تتكلم عن حاله في الدنيا.. بل تتكلم على حاله في الآخرة.. وذلك أن الله تعالى.. يردُّه أسفل سافلين في النار فيما لو اختار الكفر..
وقالوا: إن أسفل سافلين تعبير يُراد به: دركات جهنم أن الله تعالى.. يرده في هذه الدركات..
هذان قولان في الآية الكريمة.. قولان للسلف وهما مشهوران.. ولكل قول من قال به من أئمة السلف.. إذا نظرت القولين: من قال في الدنيا ومن قال في الآخرة لابد من الترجيح بينهما..
لأننا لا يُمكن أن تطبق القاعدة التي ذكرناها.. وهي أن الآية تُحمل على القولين أو الثلاثة إن لم يكن بينهما تناقض وهنا: هل فيه عدم تناقض, بحيث تُحمَل على الجميع أو لابد من الترجيح..
لابد من الترجيح لأن الأول.. يُغاير الثاني مغايرة تامة.. فنقول: الأقرب: والله أعلم هو القول الأول.. وأن الله تعالى رده إلى أسفل سافلين أي رده إلى أرذل العُمُر.. بحيث فاته شيء كثير من قوته ومن نشاطه وذاكرته..
هذا هو الأقرب والله أعلم..
وهذا الذي رجحه شيخ المفسرين بالأثر ابن جرير رحمه الله فقد رجح هذا واعتمده..
وهو مروي عن السلف كابن عباس وغيره..
أما: ابن القيم رحمه الله فإنه اختار القول الثاني وأن ردّه أسفل سافلين يعني بذلك في النار.. ثم أطال الكلام إطالة كثيرة.. وذكر عشرة أوجه يُرَجح بها قوله.. وأن أسفل السافلين يعني في نار جهنم نذكر أولها وآخرها..
الوجه الأول: مما يدل على أن أسفل سافلين هو النار.. أن أسفل سافلين بهذا التعبير لا يُعرف إلا على جهنم ولا يُعرف في اللغة ولا في العُرَف أنه على أرذل العُمُر.. فهو الآن يعتمد على اللفظة من حيث استعمالها..
وقال: إن أسفل سافلين هو ما ذكره الله تعالى في سورة المطففين.. في قوله: (كلا إن كتاب الفجار لفي سجين) فسجين هو أسفل السافلين.
نترك ما بين الوجهين.
الوجه العاشر: هذه الآية هي نظير قوله تعالى في الانشقاق (فبشرهم بعذاب أليم إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون) فهو رحمه الله يُنَظر الآية التي معك بآية الانشقاق (فبشرهم بعذاب أليم) يقابلها (رددناه أسفل سافلين) ثم الاستثناء في سورة التين يقابله تماماً الاستثناء في سورة الانشقاق..
فقال:-
هذه الآية التي معك نظير تماماً للآية التي في سورة الانشقاق ولكن.. مع ما أطال به ابن القيم رحمه الله وكثر الأوجه فيه..
يترجح القول الأول.. أن: (رددناه أسفل سافلين) يعني أرذل العمر..
والأوجه التي ذكرها.. طالب العلم إذا قرأها.. لا شك أنه يُعجَبُ بها لكن يُجاب عنها بما يَسهُل ولا يتكلف..
أما قوله في الأول: أن أسفل السافلين هذا لا يُعرف في اللغة ولا في العُرف على أنه أرذل العمر.. فهذا محل نقاش.. لأن هذا الزعم يُناقش بأيسر ما يُعرف فيُقال: بل يُعرف.. والآية هذه (أسفل سافلين) تُفَسر بالآيات التي فيها الرد إلى أرذل العمر.. (ومنكم من يُردَ إلى أرذل العمر) وما أشبه ذلك..
فالقول والجزم بأنه لا يُعرف في العُرف ولا في اللغة.. هذا مناقش بما ذكرت لك..
أما القول الثاني وهو الوجه العاشر عند ابن القيم.. يجعل الآية نظير (فبشرهم بعذابٍ أليم إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات) نقول نقرأ الآية التي قبلها في سورة الانشقاق.. (بل الذين كفروا يُكذبون والله أعلم بما يوعون فبشرهم بعذابٍ أليم إلا الذين آمنوا..) فسياق الآية في سورة الانشقاق يُخالف تماماً الآية التي معك..
التي في الانشقاق واضح أنها في الكافرين (بل الذين كفروا) والذي يناسب الذين كفروا هو عذاب جهنم.. لكن الآية التي معنا غيرها تماماً (لقد خلقنا الإنسان) المسلم والكافر (ثم رددناه) أيضاً المسلم والكافر.. فكون (ثم رددناه) تحمل على النار وأنها في جهنم لا يمكن أن تكون كذلك وليست نظيراً لآية الانشقاق.. إذن:-
ننهي هذا البحث على أهميته بأن نقول:-
( ثم رددناه أسفل سافلين ) هذا فيه قولان:-
- إما أنه في الدنيا, ويكون رده أن يُرجع إلى أرذل العمر..
- أو يكون في الآخرة.. ورده في نار جهنم..
والراجح.. ما رجحه ابن جرير - رحمه الله تعالى -..
ثم قال عز وجل:-
الآية السادسة:
( إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجرٌ غير ممنون ( 6 ) )
هذا استثناء من الكلام السابق..
الكلام السابق بيان أن الإنسان خلق في أحسن تقويم, ثم رده الله تعالى أسفل سافلين.. قال (إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات) (فلهم أجر غير ممنون)
إذا قلنا: أن أسفل سافلين.. أنها في الكفر على ما رجح ابن القيم.. فالآية لا اشكال فيها.. بمعنى أن الله رد الإنسان في أسفل سافلين في جهنم.. إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات.. فهؤلاء لا يُرَدون لما عندهم من الإيمان والعمل الصالح.. فلهم أجر غير ممنون..
فالآية مستقيمة على هذا..
فالآية على ما ذكر ابن القيم لا اشكال فيها..
لكن على القول الثاني.. الذي رجحنا..
نقول أيضاً.. لا اشكال فيها..
لأن الله تعالى ذكر الإنسان وذكر أنه رده إلى أرذل العمر وهو أسفل السافلين..
ورده إلى أرذل العمر هذا سوف يقطعه من العمل ومن العبادة ومن الصلاة وغيرها.. فربما الإنسان أشفق على نفسه.. أو أشفق عليه ذووه.. كيف آلت حال صاحبهم إلى هذه الحال السيئة وتنزل إلى مرحلة الصبا أو أقل من ذلك.. فيُقال لا تيأسوا.. ولا تحزنوا على صاحبكم.. بل لا ييئس الإنسان على نفسه, ويُشفق عليها أن تبلغ هذا المبلغ.. لأن الله قال:-
(إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون) فأجرهم مستمر.. مع كونهم لا يعملون, مع كونهم في هذا المضعف, وفي هذه الحال التي يُرثى لها.. (لهم أجر غير ممنون)
إذن.. بقاؤهم على هذه الصورة, على صورة أرذل العُمر.. هل نقصتهم أو زادتهم؟.
الواقع أنها زادتهم.. فكل يوم يبقاه الإنسان على هذه الحال التي أسفل السافلين يزداد به أجراً من الله عز وجل -..
إذن.. هذا خير له..
إذا كان كذلك.. فإنها تُصَوِّر أن الإنسان المسلم أو نقول المؤمن, أنه على خير.. تصور الإنسان في حال قوته وعمله وفي حال ضعفه وانقطاعه..
هذا هو معنى الآية الكريمة..
إذن.. تبين لك الآن ارتباط (إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات) على القولين..
نعيدهما باختصار:-
1- على قول من فسر (أسفل سافلين) بالكفر يكون المعنى: استثناء.. وأن الذي آمن وعمل الصالحات لا يُرَدُّ أسفل السافلين.
2- على القول الثاني: أن الذي يُرد إلى أسفل السافلين هو الرد إلى أرذل العمر.. أن عمله لم ينقطع بل نقول إن أجره لم ينقطع, لأن الله تعالى قال (فلهم أجرٌ غير ممنون)
(فلهم أجرٌ غير ممنون) ،، ما معنى قوله تعالى (غير ممنون)؟
كلمة.. ممنون.. فيها أقوال للسلف:-
1- فقد قيل إن ممنون بمعنى منقوص..
إذن المعنى: لهم أجرٌ غير منقوص..
2- وقيل إن معنى ممنون بمعنى محسوب..
فلهم أجرٌ غير محسوب = يعني يعطون أجرهم بغير حساب, يُعطون عطاءً كثيراً..
3- وقول ثالث: قيل أن ممنون بمعنى المنقطع..
يعني لهم أجرٌ غيرُ منقطعٍ..
يعني هو مستمرٌّ معهم..
هذه أقوال ثلاثة عبّر بها السلف..
قيل ممنون يعني 1- منقوص 2- محسوب 3- منقطع
هذه المعاني الثلاثة لنا أن نطبق عليها القاعدة..
قاعدة:-
إن الأقوال غير المتعارضة.. تُحمل على الجميع
فنقول:-
أجرٌ غير منقوص, وغير محسوب أيضاً, ومن باب أولى غير مقطوع..
وكل هذه المعاني تجتمع في الأجر ولا إشكال فيها إذن: وعد الله تعالى الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالأجر غير الممنون..
ثم بعد ذلك.. تنتقل الآيات إلى قضية أخرى..
الآية السابعة:
قال الله تعالى:
( فما يكذبك بعدُ بالدين (7 ) )
الخطاب لمن في الآية الكريمة؟.
انتبهوا:-
قال (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم..) ثم قال (فما يكذبك..)
إذن:
(فما يكذبك) أيها الإنسان (بعدُ بالدين) والاستفهام هنا يُراد به الإنكار.. يعني:-
ما الذي يحملك على التكذيب ما دُمت عرفت أن الإنسان خُلِق في أحسن تقويم.. وأن أجره مستمر..
إذن:-
ما الداعي للتكذيب!!
ما الذي يحملك ويجعلك لا تصدق وتبقى على كذبك..
والمراد بقوله (بالدين): الدين هنا معناه الحساب..
إذن:
هل هو مثل قوله صلى الله عليه و سلم -"هذا جبريل أتاكم يعلمكم أمر دينكم" ؟
ليست مثلها.. لأن الدين هنا معناها الحساب
والمراد بالحساب: يعني يوم القيامة..
ما الذي يحملك على التكذيب بيوم القيامة..
والاستفهام كما أسلفت.. يُراد به الإنكار عليه، ولا شك أنه لا عذر له..
لا عذر للإنسان أن يُكَذبَ بيوم الدين..
بعد أن وضحت دلائله وقامت الحجج عليه.. فلا عُذر لإنسان أن يُكذب بيوم الدين..
ثم بعد ذلك.. ختم الله تعالى السورة.. بهذا الاستفهام التقريري:-
الآية الثامنة:
(أليس الله بأحكم الحاكمين (8) )
هذه الآية.. ما أعظمها من آية..
وما أبردها على قلب المؤمن حينما يتأمل معناها..
(أليس الله بأحكم الحاكمين) الذي يضع الأمور في مواضعها الصحيحة..
وقوله تعالى:
(بأحكم الحاكمين)
1- لنا أن نقول إنها مأخوذة من الإحكام.. يعني أن الله سبحانه وتعالى- .. أحكم كُل شيء أنه أتقنه
2- ولنا أن نقول إنها مأخوذة من الحكمة وهي وضع الأشياء في مواضعها..
فالله تعالى أحكم الحاكمين: الذي أتقن الأشياء اتقاناً تاماً, لا مدخل لمعترضٍ عليه.. وكذلك:
هو أحكم الحاكمين من جهة الحكمة.. حيث وضع الأمور في مواضعها..
أعطى في موضع العطاء, ومنع في موضع المنع.. وهكذا..
إذن: هذه الآية الكريمة تطيب نفس المؤمن إذا قرأها وعرف معناها.. فكل ما يكون في هذا الكون.. صادر عن أحكم الحاكمين:-
- إذا هدى فلاناً .. هذا مقتضى الحكمة..
- إذا حجب فلاناً الهداية وبقي على الغواية .. هذا مقتضى الحكمة ..
- إذا أجرى حروباً في بلد, وأجرى خيراً في بلد آخر..
فهذه حكمة الله تعالى.. يُدبر كونه بمقتضى ذلك..
إذن.. هذه الآية كما أسلفت وكررت أنها تعطيك ضمانة تجاه خالقك عز وجل اطمئن له.. ولكن لا يعني هذا أبداً أنك تترك الأسباب والأشياء التي طولبت بها..
افعل الأسباب, وهاتِ ما طولبت به.. لكنَّ ربك أحكم الحاكمين..

ورد في بعض حديث.. أن الإنسان بعدما يقرأ هذه الآية.. يجيب: بلى وأنا على ذلك من الشاهدين
لكن.. الحديث في ذلك لم يصح في بعض طرقه الارسال، وفي بعض طرقه الضعف.. فلا يصح.. لكن:-
لو قاله الإنسان أحياناً لما قام في قلبه من معنى الآية الكريمة لا مانع -, لكن أن يكون سنَّة ويُندب له, ويجُعل من الأذكار التي تُقال عقب هذه السورة.. فإن هذا لم يثبت فيه شيء عن النبي عليه الصلاة والسلام
بهذا.. تمّ لنا الكلام على هذه السورة.. ونعود على عجل لنسجل أهم ما يمكن أن يقال في فوائد هذه السورة العظيمة..


من فوائد هذه السورة:-
1- بيان شرف هذه الأماكن.. الذي أشار إليه القسم في أول السورة..
ما هذه الأماكن؟ قلنا: الشام وطور سيناء ومكة.. وهذه الأماكن شريفة, ولكنها شريفة بما شرفها الله تعالى به..
فليس لنا أن نُحدث لها شيئاً من عندنا..
ليس لنا أن نُشرف مثلاً الشام بعبادة أو بشَدِّ رحل.. إلا ما يتعلق ببيت المقدس.. المسجد الأقصى فشأنه معروف..
كذلك: طور سيناء, ليس لنا أن نحدث شيئاً في ذلك المكان.. وبه يُعرف: أن المسجد الذي بُني في ذلك المكان ويُسمى مسجد موسى أنه ليس له خاصية وأنه من قصدهَ ليُصلي به, فإنه مبتدع.. لأن هذه لم يفعلها السلف..
أما البلد الأمين مكة.. فشأنه معروف من حيث قصده للعبادة والحج والعمرة..
ومن فوائد السورة الكريمة أيضاً:-
2- بيان كرامة الله سبحانه وتعالى للإنسان.. حيث جعله في أحسن تقويم..

3- أيضاً.. بيان حكمة الله عز وجل.. حينما يرد هذا الإنسان إلى أسفل سافلين
أيضاً مما يُستفاد من هذه السورة الكريمة..
4- بيان عناية الله عز وجل بهذا الإنسان.. حيث كان أجره ممتداً مع انقطاع عمله..
هذا الكلام على التفسير الأول أن أسفل سافلين أرذل العمر وعلى القول الثاني: أن أسفل السافلين في النار..
5- التحذير من النهاية السيئة التي قد يختارها الإنسان لنفسه

6- مما يُستفاد من السورة في قوله (فما يكذبك بعدُ بالدين) يستفاد منه:-
انقطاع حجة المكذبين بيوم القيامة
7- من قوله تعالى (أليس الله بأحكم الحاكمين) يستفاد من هذا حكمة الله -سبحانه وتعالى - واتقانه لخلقه..


التعليقات ( 0 )

جميع الأوقات بتوقيت جرينتش +4 ساعات. الوقت الآن هو 08:53 مساءً الثلاثاء 1 يونيو 1446.