الحمد لله ولي الصالحين، غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب، ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين. الله أكبر، الله أكبر ... أما بعد:- فأيام تقضى، وليال تطوى، وأنت السائر إلى ربك تدنى (كل نفس ذائقة الموت) . تعاقبت الشهور، وتفلتت الأيام، وانسلخ من الليل النهار فها نحن في نهاية العام، ومن لطف الله وكرمه أن بارك في الختام وجعل من أيامه أفضل الأيام. فأيام العشر هي الأيام المعلومات ضاعف الله العمل فيها، وكتب من الأجر ما لم يكتبه في غيرها . وبين أيديكم أيام التشريق الأيام المعدودات وهي أيام أكل وشرب وذكر لله عزَّ وجل فاعمروها بذكر الله مكبرين في كل أوقاتكم وفي أدبار صلواتكم. ويومكم هذا هو يوم النحر هو يوم الحج الأكبر أفضل أيام الدنيا يقضي الحجاج في هذا اليوم معظم مناسكهم، فينتظم عقد الحجيج على صعيد منى بعد أن وقفوا بعرفة وباتوا بمزدلفة، فقد جعله الله عيداً للمسلمين حجاجاً ومقيمين، في هذا اليوم المبارك يتقرب الحجاج إلى ربهم بذبح هداياهم، وأهل الأمصار بذبح ضحاياهم إتباعاً لسنة الخليلين إبراهيم ومحمد عليهما الصلاة والسلام . فما أهنأ الطائعين بطاعتهم، وما أعظم المتقربين بعبادتهم يرجون رحمة ربهم، ما أسعدهم حينما أدركوا أن أجمل الأوقات وأطيبها هو ما قضاه العبد قريباً من ربه تبارك وتعالى، ذاكراً حامداً تالياً لآياته، متصدقاً من ماله يطيل السجود، يرفع شكايته، يبث إليه ما أهمه، ويرجو قضاء حاجته، ويأمل حسن عاقبته . فأدرك حقيقة الدنيا، وتنبه لمواطن الزلل منها فهو إلى ربه سائر، مغتبط بنعمة الله يسأل ربه الذي بصره ألا يزيغ قلبه بعد إذ هداه (ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا) (فهو على نور من ربه) (أفمن يمشي مكباً على وجهه أهدى أم من يمشي سويا على صراط مستقيم) أيها الإخوة أذن الله للشاكرين بالزيادة، وأمر بالتحدث بنعمته الظاهرة والباطنة، فبعد نعمة الله علينا بالإيمان أنذكر نعمة الأمن وجمع الشمل، أم نعمة الصحة، والأولاد، أم نعمة مدافعة الله عن عباده في هذا البلاد؟ (وإن تعدو نعمة الله لا تحصوها) . صيفنا وقت لفراغنا وسياحتنا، وشتاؤنا وقت لتنويع مآكلنا، وملابسنا، وتفكه في أحاديثنا ومجالسنا (بلدة طيبة ورب غفور) . فهل بعد هذا الخير من شر ؟ هذه الشعوب التي تموج، والحروب الغاشمة، والثورات التي لا تلوي على أحد ولا تعوج [1] وهذه الزلازل التي طمرت مئات الناس، والمجاعات، والفياضانات التي أخليت من أجلها المساكن -كان الله في عون أهلها- هذه كلها ليست على كوكب آخر، والذين نزلت بهم هم بشر مثلنا، ويصلون إلى قبلتنا، ولكن الله دافع عنا ما حلَّ بهم، وأسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة، وفضلنا على العالمين، فاذكروا آلاء الله، ولا تعثوا في الأرض مفسدين . وسنة الله ماضية (ولن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا) يقول الله تبارك وتعالى (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال)، (ذلك بأن الله لم يك مغيراً نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وأن الله سميع عليم) وإنما أخوف ما يجب أن نخافه في هذه السنوات المتسارعة، وفي تلك الأحداث المتلاحقة أن يغير الله علينا بذنوبنا، أوبما فعله السفهاء منا فالنذر تتوالى، وآيات الله تترى (فأيَّ آيات الله تنكرون) . لقد بلينا بقوم من أبنائنا ويسكنون أحياءنا، ويدخلون بيوتنا ويحضرون مجالسنا خف ميزان الصلاة في نفوسهم فهم لا يشهدونها مع جماعة المسلمين، وعهدهم بالمساجد قد انقطع من قديم. وترك الصلاة مع الجماعة مظنة لتأخيرها عن وقتها، وجمعُها إلى غير أختها فهم يسردونها نقراً، وما بعد نقرها إلا تركها، وهو نهاية مطاف نفر من هؤلاء المتساهلين (فلم يك من المصلين)، فشابه من قال الله فيهم (فلا صدَّق ولا صلى). فما أتعس حياتهم ! وأضيق صدورهم، وأحسن الله عزاء أهلهم بهم بعد حكم النبي صلى الله عليه وسلم فيهم حكمه (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر) فلا يلوا رحمكم الله - شيئاً من ذبح ضحاياكم، حتى يراجعوا ربهم . الله أكبر الله أكبر .... أيها الإخوة: إن الله عز وجل يُري عباده نذر عقوبات قد انعقدت أسبابها . فلننظر، ثم لننظر في مكاسبنا ورواتبنا فقد بان لكل متبصر أن جمع المال ليس هو التجارة، ولكن التجارة هي نقاء القرش الذي نضعه في جيوبنا، ونودعه في حساباتنا حتى يطيب مطعمنا. ناهيك عن غبار الربا في القروض الميسرة، والتورق ببيع السلع المزعومة، فتحول الغبار إلى طين لازب تلطخت به أيدي ذوي الدخل المحدود فلم يقضوا ديونهم، ولم تسد حاجتهم . وصاحبها كالذي يشرب الماء المالح لا يزيده إلا عطشاً (فاتقوا الله وأجملوا في الطلب فلن تموت نفسك حتى تستكمل رزقها وأجلها) . (ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب). أيها الناس: إنكم تواجهون غلاء في الأسعار وتضخماً حاصلاً في الأموال ورخصا في قيمة الريال، والمحللون يتوعدون بالمزيد، وتفاؤلهم بتغير الأحوال ليس بقريب. فلم لا نصدق اللجأ إلى الله في محنتنا، وإنما مددنا خيوطنا إلى غير خالقنا، وتعلقنا بغير القابض الباسط المسعر ونسينا التعبد لله باعتقاد (ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم) فصارت وجهة قلوب كثير منا إلى زيادة ملكية في الرواتب يترقبونها أو مكرمة يحوزونها . وإن الزيادة الملكية في رواتب الناس، والدَّعم الذي توليه الحكومة لمستلزماتهم تشاطرهم فيه عبء قيمتها، وتتحمل من خلالها بعض ثقلها هي جزء في حل الأزمة، ورحمة من الراعي لرعيته، ومن لا يشكر الناس لا يشكر الله . ولكن يبقى لكل زمن لبوسه فالاقتصاد، وترك الكماليات، والاستغناء عن المظاهر في الولائم والمناسبات والمراكب وتأثيث البيوت ووسائل الاتصالات مطلب في كل وقت فكيف بهذا الوقت ؟ وإن من أسباب كشف الله الكرب، ودفعِ الله عن عباده رحمة المستضعفين ومن قلَّ دخلهم، وتفقد الفقراء المتعففين، وإعطاء العمال أجورهم، وتشجيع القائمين على الجمعيات الخيرية، والمناشط التطوعية، والتنفيس عن الغارمين، وأن تصدقوا بإسقاطها عنهم خير لكم . الله أكبر ... أيها الآباء: من آكد ما نتذاكر به الاستعانة بالله على قوامة البيوت لتكون مساكننا سكناً لأهلها، طمأنينة بأفرادها (والله جعل لكم من بيوتكم سكناً). وإن الله وحده هو القادر على ترويض طباع فلذات أكبادنا، وصرفهم عن سيء أخلاقهم، وإعاذتهم من نزغات الشيطان والهوى، فالإلحاح بالدعاء للأبناء عبادة نغفل كثيراً عنها، وسلاح قلما استخدمناه . (هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة)، (رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي) . فما عسى أن نقول في شأن الأبناء وماذا يريد الآباء من أبنائهم؟ هذه رسالة أبوية بكلمات صادقة من أب يبعثها لابنه، وحيث إن لهذا الأب شركاء كثيرين فيما تلجلج في صدره أتلو الرسالة كاملة علَّ الله أن يفتح لها قلباً مغلقاً . يقول الوالد: ولدي العزيز، هذا يوم العيد و أظنني أسعد الناس بك في هذا اليوم، فلا مزاحم لي فيه أليس كذلك؟! ولدي تطول غيبتك عن بيتنا، وقد آثرت أصحابك علينا، ويمضي اليوم تلو اليوم ولم تر والديك، أو لم تبق معنا بقاء يناسب مقامنا، ويحفظ حقنا فلا تظنن الأمر سهلا علينا، وإن أظهرنا تجلدنا، وتناسيا حقنا. وكيف ننسى حقنا، وأخبار البارين بوالديهم تذكرنا تقصيرك، وقربُ مَنْ مَنَّ الله عليهم فحفظوا حق والديهم فقرت بهم أعينهم، وتكثروا بصحبتهم تقلب مواجعنا. ولدي العزيز: أنا وأمك ضيوف عندك، ويوشك الضيف أن يطوي فراشه، ويرفع متاعه، فالضيف لا بد له من ارتحال، وحاله دائماً إلى انتقال حينها من ضيف يقارب والديك في حقهما، أو أن يدانيهما في معروفهما ؟ من تبر بعد والديك، ومن تؤمل التوفيق بدعائه إذا غابا عن ناظريك ؟ حينما ينقطع منك قول يا والدي! وأنت يا أمي! وانقطع قبلها قولنا لك يا بني . ذهب الوالدان راضيين عنك، أو ساخطين وبين الحالين بعد كما بين المشرقين والمغربين . فأين خصماء أنفسهم حينما نقموا على والديهم كلمة، أو أجزعهم ما زعموها سوءَ معامله ؟. فاللهم عفوك وعافيتك . ماذا اقتنيت في خزانة جوالك؟، ولم تخفي عنا حاسوبك؟، وما وراء تلك القنوات التي لا تنفتح إلا بأمرك؟! ولدي العزيز: الغناء ينبت النفاق في القلب، وحكمه حرام على ما علمتك يا ولدي من قبل، وعلى ما درسته في سنواتك الأولى . فلم تورطت فيه، وعصيت على بصيرة من أمرك؟! ولدي إن أكثرنا سؤالك فدافعها شفقة أبوية، أو أنكرنا إسرافك في عنايتك بنفسك، وساءنا بعض لبسك، وأزعجتنا ميوعتك، وقطع قلوبنا رقةُ تدينك فقد أمَّلنا فيك معالي الأمور فلا تُسقط في أيدينا، وتخيب آمالنا، وتردنا على أعقابنا بعد إذ بلغت مبلغ الرجال، فلا نرضي منك، ولا لك إلا أكملَ الخصال، وأتمَّ الأحوال . كيف؟ وقد عاينت عظات تشق الجبال، من أخبار أترابك ومن هم في سنك، تعرفهم، أو تعرف من يعرفهم قضى عليهم التهور، وماتوا في سياراتهم التي لم يرعوها حق رعايتها رحمهم الله - ولا نجدد حزنا عليك، ولكن كفى بالموت واعظاً . والسعيد من اتعظ بغيره . فخذ كتابك بقوة، واستمسك بدينك، ولا يكن هزلك أكثرَ من جدك، والمهزوم من هزمته نفسه، والمغلوب من غلبه هواه . ولدي: استودعك الله في دينك وبدنك ! . الله أكبر الله أكبر ... أما أنت يا أمة الله ليهنأ لك العيد بعد أن صمت، وتصدقت، وقمت بحق الزوج، واحتسبت رعاية البيت وكلفة الحياة . ليهنأ لك العيد بعد أن أدركت أن حجابك جزء من دينك، وأن ما يسمى بالنقاب الذي تتابعت فيه النساء، والعباءات المخصرة بالأكمام الضيقة كلها عبث في الحجاب، أخرجته عن حكمة رب الأرباب، ولابسته فتنة للغافل، ومطمع للذي في قلبه مرض . ليهنأ لك العيد حينما اخترت لباس العيد لك ولبنياتك لباسا سابغاً واسعاً لا يشف ولا يصف . ليهنأ لك العيد حينما أنهيت الجدال حول البنطال بتركه حيث هو لباس فتنة، وإن كان عند النساء والمحارم، وباب لغيرك يقتدي بك . أيها الأخت الكريمة: غير خافٍ عليك تلك الحملة المسعورة المتباكية على حقوق المرأة، وذاك السيل الجارف في تطبيع المجتمع ليقبل الاختلاط الذين ملَّته الدول الكافرة، وأسفت على فرضه على مجتمعاتها في ظل ذلك كله نقول: إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن فإليك كلمات رجل الأمن الأول ولي عهدنا في هذه البلاد المباركة يقول: وفقه الله :" أرجو من الأخوات العزيزات ألا يشبهن مجتمعنا بمجتمعات أجنبية، ويعتقدن أن تلك المجتمعات ترعى المرأة أكثر من رعاية مجتمعنا لها! ولكن، هل كل عمل للمرأة في تلك الدول يليق بالمرأة؟ فلا بد أن نأخذ بالاعتبار عقيدتنا أولا وأخلاق مجتمعنا. لا أعتقد أن فيه رجلاً أيا كان سيسمح لبنته أو زوجته أو أخته أن تكون سكرتيرة لرجل كما هو موجود في الخارج، المرأة كريمة، ويجب أن تعيش كريمة! إذن قرِّي عيناً بهذه الكلمات، بل هو توجه شرق به حاملو لواء تغريب الأمة، تقطعت به حبالهم وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون! حمى الله بلادنا من كل سوء! الله أكبر ... عباد الله : إن من أعظم أعمالكم في يومكم هذا ذبحكم ضحاياكم، وما عمل ابن آدم يوم النحر عملاً أحب إلى الله من إراقة دم [2]، فطيبوا بها نفساً محتسبين غلاء أسعارها، ويكره تركها لمن قدر عليها،كما أن ذبحها أفضل من التصدق بثمنها، ووقت الذبح من حين الفراغ من صلاة العيد، وينتهي بغروب الشمس من اليوم الثالث بعد العيد، فصارت الأيام أربعة. فاللهم لك الحمد نعمك تترى، وفضلك سابغ . فاللهم أوزعنا شكر نعمتك واستعملنا في طاعتك . اللهم تقبل من الحجاج حجهم، ومن المضحين ضحاياهم. اللهم أحم بلاد الحرمين من الحاسدين، اللهم عليك باليهود والنصارى والمنافقين . اللهم عليك بالذين يلحدون في الحرم، ويلعنون صحابة نبيك، ويتعبدون بأذية عبادك . اللهم أبطل سعيهم، وفرق جمعهم . اللهم لا ترفع لهم رآية، ولا تقم لهم دولة، ولا تجعل لهم يداً على المسلمين . غاب عن عيدنا هذا أقارب وأحباب ومعارف وأصحاب، وعلماء وأمراء، فوصلهم بالدعاء بعض حقهم فاللهم اغفر لموتى المسلمين والمسلمات، وجازهم بالحسنات، وكفر عنهم السيئات، ولا تفتن بعدهم، ولا تحرمنا أجرهم. ثم الدعاء لإخواننا الذين يفتنون في دينهم . فاللهم إنا نسألك فرجاً عاجلاً لإخواننا في سوريا، اللهم احفظهم في دينهم، وفي أبدانهم، ومكن لهم في ديارهم وول عليهم خيارهم. اللهم واجعل ذلك لإخواننا في ليبيا . اللهم وأصلح أحوال المسلمين في اليمن، وفي مصر، وفي تونس، وفي العراق، وفي كل مكان يذكر فيه اسمك. اللهم هذا جهدنا، وأنت ربنا، على الله توكلنا، ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين، ونجنا برحمتك من القوم الكافرين . سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين. [1] المعجم الوسيط (2 / 634) عاج عوجا: رجع وعن الأمر انصرف، وفلان ما يعوج عن الشيء ما يرجع عنه . [2] عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما عمل ابن آدم من عمل يوم النحر أحب إلى الله من إهراق الدم وإنه ليؤتى يوم القيامة بقرونها وأشعارها وأظلافها وإن الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع بالأرض فيطيبوا بها نفسا " . رواه الترمذي وابن ماجه، صحيح، المشكاة (1/330)