• ×

د.عبدالرحمن الدهش

تفسير سورة الشرح

د.عبدالرحمن الدهش

 0  0  16.2K
زيادة حجم الخط مسح إنقاص حجم الخط
تسميتها:
هذه السورة.. تسمى بسورة الشرح كما هو مشهور-..
وربما سميت أيضاً بسورة الانشراح..
وربما سميت سورة (ألم نشرح)..
كل هذه مثبتة في تسمية هذه السورة..
من حيث النزول:
هذه السورة.. سورة مكية.. وعلى ما سبق بالأمس يكون نزولها.. قبل هجرة النبي عليه الصلاة والسلام..
قال الله تعالى: في أول هذه السورة.. "أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ "..
والخطاب هنا للنبي عليه الصلاة والسلام..
والاستفهام كما مَرَّ نظيره- يُراد به التقرير.. يعني: قد شرحنا لك صدرك..
فالله سبحانه وتعالى يُقرر نبيه عليه الصلاة والسلام ويَمُنّ عليه أنه شرح له صدره.. "أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ "..
فما هذا الشرح الذي حصل له عليه الصلاة والسلام؟
هل هو شرح حسي أو شرح معنوي؟
ما معني حسي؟ وما معنى معنوي؟
إذا قلنا إنه شرح حسي فالآية تشير إلى شق صدره عليه الصلاة والسلام لما كان في أول أمره.. الشق الحسي.. حينما شقه جبريل وأخرج من قلبه حظ الشيطان وملأ قلبه العلم والحكمة.. على ما ثبت في الحديث.. على خلاف في عدد هذا الشق.. هل حصل مرة أو مرتين أو أكثر..؟
لكن: الذي يهمنا هنا.. هل هذا هو الشرح الحسي بالصفة التي ذكرنا؟ أو هو شرح معنوي نفسي؟؟
الواقع.. أن الآية تحتمل المعنيين:
- تحتمل الشرح الحسي الذي كان بشق الصدر..
- وتحتمل الشرح المعنوي الذي كان بانبساطه وسعته وما أشبه ذلك..
وهنا ينبغي أن تقيد:
قاعدة تفسيرية:
- أن الآية إذا احتملت أكثر من معنى.. ولم يكن بينها تعارض.. فإنها تُحْمَل على هذه المعاني..
هذه قاعدة تفسيرية من أنفس القواعد.. قيّدها لتطبقها في مواطن كثيرة..
وهذه القاعدة سوف يأتي لها بإذن الله تعالى تطبيقات كثيرة.. أحدها: مما نحن بصدده في قوله تعالى: "أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ "..
إذن: نعود فنقول أن هذا شرحٌ حسي..
ثم الشرح المعنوي الذي كان بانبساطه، وسعته، وتحمله ما يعتريه عليه الصلاة والسلام.. وهذا الشرح الذي امتن به سبحانه وتعالى على نبيه لاشك أنه موجود في سيرته وهديه $ يطبق ذلك..
فلقد كان أوسع الناس صدراً عليه الصلاة والسلام مع أنه يأتيه ما يأتيه من المضايقات، ومن المصائب ومن الأمور التي لا يصبر عليها إلا من صبّره الله سبحانه وتعالى عليها..
فإن حياته الشريفة لم تكن في سعة.. ولم تكن في فرح وسرور دائم.. بل المنغصات كثيرة.. إن لم تكن هي الأكثر..
المنغصات من قبل ما واجهه من الناس في الدعوة.. فإن الناس عَادَوْهُ في أول أمره في مكة ثم كذلك في المدينة..
ثم كذلك من المضايقات: من جهة ما يتعامل به بعض أصحابه مما قد يلحقه شيء من الضيق في مواقف معروفة ومعدودة، وأحياناً لا تكون مقصودة منهم لكن هي لاشك تُنكد الخاطر.
ثم أيضاً ما ابتلي به من أهله.. فإن أهله لهم مواقف عكروا فيه شيء من صفو حياته.. لكنه واجه هذا كله بالصبر والحكمة والاحتساب التي تناسب المقام..
كل هذا.. تطبيقاً لقوله تعالى: "أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ "..
ولا يخفاكم أن شرح الصدر.. نعمة كبرى.. إذا مَنَّ الله تعالى به على العبد.. لأنه إذا انشرح صدره:
- فسوف يجد إقبالاً على طاعة الله عز وجل..
- وسوف يجد إقبالاً على مصالحه الدنيوية يقضيها بيسر وسهولة وعدم كلفة..
كل هذا من آثار شرح الصدر..
ثم اعلم أيضاً: أن شرح الصدر مع ما له من المزايا -التي أشرت أليها- أيضاً له أسباب كثيرة:
فأعظمها كما ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى، توحيد الله عز وجل: كلما عَظُمَ التوحيد، زاد الانشراح والانبساط..
عكسه بعكسه: إذا تخلل التوحيد شيءٌ مما يُنافيه أو يُنقصُه.. فإنه يضيق الصدر، وتنقبض النفس فهذا. يقلق على بالك..
أن: توحيد الله عز وجل أعظم ما يشرح الصدر.. ثم هناك أسباب أخرى كثيرة.. يقدرها الله تعالى للعبد فينشرح بها صدره..
يَمُرُّ عليك كثيراً أن النبي عليه الصلاة والسلام حصل له كذا وكذا فخرج مثلاً- مبسوطاً.. خرج تبرق أسارير وجهه..
وفي بعضها: أنه ضحك حتى بدت نواجذه..
أشياء كثيرة تمرّ في السيرة.. من أقربها: ما مَرّ عليك: لما دخل على عائشة رضي الله تعالى عنها تبرُقُ أسارير وجهه فرحاً وانشراحاً.. (لماذا؟)..
هيأ الله تعالى له سبباً ألحقه بهذه الحال.. حال الانبساط.. فإنه ذكر لعائشة رضي الله تعالى عنها أن المسمى بمجزز المُدلجي.. رأى زيد بن حارثة وأسامة نائمين وقد غطيا أبدانهما وبدت الأرجل؛ فقال مُجزز إن هذه الأقدام بعضها من بعض.. يعني أن هذه الأقدام لشخصين بينهما قرابة أو بينهما رَحم أو ما أشبه ذلك..
هذا فَرِح به النبي عليه الصلاة والسلام وَسُرّ به سروراً كثيراً حتى أنه دخل على عائشة رضي الله عنها تبرق به أسارير وجهه..
هذا سبب هيأه الله تعالى لنبيه لينشرح به صدره..
وإنما انشرح صدره بذلك.. لأن المنافقين كانوا يلمزون أسامة بن زيد ويقولون: بعيدٌ أن يكون أباه زيداً؛ لأن زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنه كان أبيض البشرة وأما أسامة بن زيد كان أسمر البشرة، والمنافقون يتصيدون مثل هذه الأشياء التي يشوشون بها على الصحابة وعلى النبي عليه الصلاة والسلام..
الشاهد: أنه لما أخبر مُجزز بما أخبر.. فَرِح بذلك النبي عليه الصلاة والسلام..
وهذا شيء كثير.. فإنك لو جعلت تقيد ما يمر عليك من مواطن فرح النبي عليه الصلاة والسلام ومواطن سروره لجمعت بذلك كماً ليس بالقليل وربما لو جمعتها تستخلص منها دروساً ربما تجمعها وتنظمها تحت مجالات وأطر تبين بعد الجمع..
نعود: أن الله سبحانه امتنّ على نبيه بشرح الصدر: "أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ "..
قال الله سبحانه وتعالى: "وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ ".. هذه النعمة الثانية: أن الله تعالى وضع عنه: يعني حطّ عنه.. وضع الشيء يعني حطه..
قال هنا: وضعنا عنك وزرك..
المراد بالوزر هنا: هو الإثم والحرج الذي لحقه عليه الصلاة والسلام.. فامتنّ الله على نبيه فوضع عنه وزره..
وهذه الآية هي قريبة من قوله تعالى: "لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ"..
فمما أكرم الله تعالى به نبيه أن وضع عنه هذا الوزر..
ما صفته؟
قال: "الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ".. إذن: هو وزر شديد ثقيل..
(أنقض) يعني أثقل ظهر النبي عليه الصلاة والسلام وإذا كان كذلك.. فإن وضعه من الله تعالى عن نبيه لاشك أنها نعمة، ومنحة امتنّ بها على نبيه عليه الصلاة والسلام..
ثم.. أنّا لسنا بحاجة أن نطيل الكلام على هذا الإثم الذي حصل من النبي عليه الصلاة والسلام فنقول كما قالت الآية:
نقول: إن الله تعالى وضع عنه وزره..
ما وزره هذا؟
لا ندخل في تفاصيل كثيرة، ونجمل كما أجمل الله تعالى.. لكن الآية تدل بوضوح أن له وزراً وإثماً عليه الصلاة والسلام وهو بشر.. ليس بِمَلَك، بل هو بَشَر مُكلف ربما وقع في شيء من الإثم..
ولكن قوله: "الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ".. هذا لعظم مقام الله سبحانه وتعالى في قلبه.. صار الذنب الذي يهون على غيره يعظم عنده عليه الصلاة والسلام..
فلا يُفهم من الآية أن له ذنوباً كبائر وتنوع في معاصي- وتخبط في محارم.. ليس كذلك..
إنما: لما كان مقام الله تعالى عظيماً في قلبه كان الذنب الذي يستهين به غيره كان عظيماً عنده عليه الصلاة والسلام..
فنقول: يعْظُمُ الذنب.. بمقدار عظم الله سبحانه وتعالى في قلب العبد..
وهذا هو الذي تعنيه الآية..
قال تعالى: "وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ"..
إذا تقرر هذا.. فإننا لسنا بحاجة إلى أن نُبْعِدَ بالآية مَبْعَداً قد رَكِبَهُ بعض المفسرين، وقال: إن الوزر هنا هو وزر الأمة..
ووضعنا عنك وزرك: يعني وزر أمتك.. لكن لمحبة النبي عليه الصلاة والسلام للخير ولأنه حريص على أمته.. أُضيف الذنب إليه..
قالوا: هذا في هذه الآية الكريمة، وقالوه أيضاً في آية أخرى: "لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ".. قالوا: ليغفر ذنوب أمتك..
وكل هذا غير صحيح..
قال تعالى: "وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ(2) الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ"..
أظن ما قلته حول الآيتين واضح.. وهو ظاهر الآية..
قال الله تعالى: "وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ".. هذه مِنَّةٌ أخرى للنبي عليه الصلاة والسلام قال: "وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ".. فجعل ذكره مرفوعاً.. يعني سمعته وصيته عليه الصلاة والسلام كان مرفوعاً بحيث يكون يُذكر في مقامات كثيرة..
وبحيث أيضاً لابد من استشعار فضله وما مَنَّ به على أمته في مناسبات عديدة..
كل هذا من رفع الذكر الذي مَنّ الله به على نبيه..
مثلاً:
(1) الركن الأول من أركان هذا الدين: أحد شقيه.. هو ذكر النبي عليه الصلاة والسلام.. يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله..
(2) كذلك الصلاة.. المفروضة والنافلة.. من بعض أفعالها أن يُصلَىَ على النبي $ إما أن يصلي ركناً منها أو واجباً أو مستحباً على خلاف ذلك.. المهم أنه يصلي..
هذه من رفع الذكر.. أشياء كثيرة تدل على أنه مرفوع عليه الصلاة والسلام..
واعلم أن: رفع الذكر.. ليس بالأمر الهين.. بل هو نعمة يَمُنُّ الله تعالى بها على عبده.. وإياك.. أن تستخف برفع الذكر وتقول: لا يهمني هذا أهم شيء ما يكون بيني وبين الله..
نقول: نعم؛ أهم شيء ما يكون بينك وبين الله، ولكن الذكر الحسن، والسمعة الطيبة للإنسان في حياته أو بعد مماته.. هذه كما يقول القائلُ: عمرٌ ثانٍ، يمتد عمرك ثانية بهذا الذكر الذي يهيئه الله تعالى لك..
قال الله تعالى: "وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ "..
ثم قال: "فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً(6)"...
بيّنَ الله تعالى هذه الحقيقة المهمة فقال: إن مع العسر.. يسراً..
ما هو العُسْر الذي جعل الله تعالى معه يُسراً؟
العُسْر: هو الشدة وعدم تيسر الأمور..
جعل الله تعالى مع هذا العسر نقيضه.. فقال: "يسراً" وهي السهولة، وتيسر الأمور..
فالعسر لم يجعله الله تعالى يأتي عباده مجرداً، بل جعل معه اليُسر الذي هو السهولة وتيسر الأمور.. وأكد هذا فقال: "إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً"... أكده..
فهل هذا التأكيد لمجرد التأكيد؛ أو ليُعطي معنىً آخر يفوت لو حُذفت الجملة الثانية؟؟!!
الواقع هو: أنه يعطي معنىً آخر.. يفوت لو حُذفت الجملة الثانية .. (كيف هذا؟)
ذلك توضيحه.. بأن: العسر الذي ينتاب الإنسان لابد أن يُقضى عليه ولابد أن ينتهي؛ لأن الله تعالى قابله بيُسْرَيْن..
بمعنى: أن العسر سوف يضمحل مع يُسرين قدرهما الله عز وجل..
فإن قلت: كيف تقول مع يسرين؛ والآية أيضاً فيها عُسْران "فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ".. "إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ"...؟
فيها عُسْران وفيها يُسران.. فيقال: لا.. هنا لابد من تطبيق قاعدة..
قاعدة تفسيرية لغوية:
تكرار النكرة بلفظها.. يدل على أنها غير الأولى..
بخلاف: تكرار المعرفة بلفظها.. فإنها تكون هي السابقة..
فالعسر.. في الآية مكرر بلفظ المعرفة.. إذن: العسر المذكور في الآية واحد؛ لأنها معرفة تكررت..
أما اليُسر فتكرر لكنه بلفظ النكرة..
العسر.. تكرر بلفظ "المعرفة".. فيكون هو الأول..
أما اليسر.. تكرر بلفظ "النكرة" .. غير الأول..
على هذا: عندنا عُسرٌ واحد.. وعندنا يُسران..
وعلى هذا: ما يُروى عن النبي $ أنه قال: (لن يغلب عُسرٌ يُسريْن)..
بمعنى أن اليسرين سوف يغلبان العسر، وسوف يقضيان عليه..
إذن.. هذه الأمة من أعظم الآيات.. وهي أن الله تعالى.. وعد من حصل له عُسرٌ وعد أن يحصل له يُسرٌ ثم يُسر حتى ينقضي هذا العسر الذي وقع فيه..
وتلاحظ هنا.. أن الله تعالى قال: ".. "إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ".. "مع" ماذا تفيد؟
مع: تفيد المعية.. مما يدلك على أن العُسْرَ سوف يتبع العسر حتى يذهب به..
ولكن.. أيضاً بالضرورة أن المعية هنا ليس معناها المقارنة.. لأن: العسر واليسر لا يمكن أن يجتمعا في حال واحدة لكن أحدهما يسبق الثاني..
إذن.. المعية هنا في الآية.. معية مُعاقبة أو تعقب؛ ليست مقارفة بل معية تعقب وبعدية..
ويدل على هذا القول: أن الله تعالى قال في مقام آخر: "سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً".. فجعل الله تعالى اليُسر بعد العُسر..
إذن.. أعود فأقول: إن قوله تعالى: "إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً"... المعية تفيد التعقيب والبعدية..
ثم: أيضاً لتعلم أن هذا التعقيب، وهذه البعدية نسبية لكن لابد أن تأتي، لابد أن يأتي اليُسر بعد العُسر.. لكن يأتي بعد يوم، بعد يومين.. الله أعلم به، حسب الحال، وحسب ما يقوم من الأسباب التي يرفع الله تعالى بها العُسْر..
قال الله تعالى بعد ذلك: "فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ "..
وهذا خطابٌ لمن؟ للنبي عليه الصلاة والسلام..
"إذا فرغت" يعني قضيت وانتهيت.. لكن قضيت وانتهيت من أي شيء؟!!
لم تبين الآية..
فنقول: إن الآية عامة.. إذا فرغت مما أنت فيه أياً كان.. إذا فرغت قضيت وانتهيت مما أنت فيه سواء كان من عمل ديني أو من عمل دنيوي.. إذا فرغت من هذا العمل وهذا الشغل الذي أنت فيه.. ماذا تفعل؟!
قال الله تعالى: "فانصب" يعني: اجتهد؛ اجتهد في عمل آخر.. هذا معنى الآية الكريمة..
أنك تفرغ من عمل ثم تدخل في آخر..
تنصب: تجتهد في عمل آخر..
وهذا شامل لعمل الدين وعمل الدنيا..
إذا كان كذلك: فإن الآية الكريمة.. هي في الحقيقة منهج أصيل في الجد وعدم البطالة..
إذا فرغت فانصب؛ ليس عندنا في حياتنا معشر المسلمين ليس عندنا بطالة، ولا كسل، ولا إضاعة وقت، إذا فرغت من أي عمل أنت فيه فإياك أن يمضي عليك الوقت.. بل انصب لعمل آخر..
هذا هو معنى الآية.. بأوسع مدلول..
أما ما ورد عن بعض السلف.. أنك مثلاً: إذا فرغت من الصلاة.. فاجتهد في الدعاء.. وبعضهم يقول: إذا فرغت من الجهاد.. فاجتهد في الحج.. وبعضهم يذكر نظائر هذا..
فهذه الأقوال لا نقول أنها خطأ.. نقول: إن هذه الأقوال أمثلة للعمل الذي تفرغ منه وللعمل الذي تنصب وتجتهد فيه..
هذا هو توجيه ما ورد.. وسوف يمر عليكم إن شاء الله في مقدمة التفسير: أن السلف كثيراً ما يفسرون بالمثال.. ولهم في ذلك طرق.. فالآية الكريمة تصح أن تكون مثالاً.. لتفسير السلف بالمثال..
إذن.. تبين لك الآية، وأنها آية عظيمة في الجِدِّ وعدم إضاعة الوقت..
"إذا فرغت".. "فانصب".. لعمل آخر، بماذا تنصب؟ تنصب بعمل دينٍ أو بعمل دنيا؟؟
نقول: بحسب الحال.. قد يُقال انصب بعمل الدنيا، لأنها مصلحتك، وفيها رزقك..
وقد نقول: لا؛ الوقتُ.. وقت عبادة فيقال: انصب في عمل ديني..
إذن.. هذه الآية كما تلاحظ- آية عظيمة في ذلك.. فحريٌ بكل مسلم أن يتمثلها..
وطالب العلم بالدرجة الأولى.. أن يكون متمثلاً بالآية الكريمة فلا تضيع عليه الأوقات هنا وهناك في أشياء لا يستفيد منها.. بل عليه: إذا فرغ من عمل يرجو نفعه أن ينصب في العمل الآخر..
لأن: الأوقات سريعة، والفرص لا تتكرر..
إذن.. لعل هذا الكلام يذكرك بقول النبي $ في الحديث الذي رواه أبو داود وإن كان فيه ضعفٌ من حيث السند، لكنه صحيح من حيث المعنى، في قوله: (أصدق الأسماء: حارث وهمام)..
أصدق الأسماء التي تسمى بها الناس "حارث" الذي يحرث ويجتهد ويعمل..
أو عنده همّة "همام" يهمّ بالعمل الصالح الآخر.. فهو (حارث) يعني يؤدي عملاً.. وعنده همّة لعمل آخر.. الحديث فيه ضعفٌ.. صحيح في معناه..
قال الله تعالى: "فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ ".. ثم قال: "وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ "..
ما معنى قوله تعالى: ارغب؟ ما هي الرغبة؟
الرغبة: هي الطلب.. تقول: رَغِبْتُ في كذا.. يعني طلبته..
إذن: "إِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ ".. يعني اجعل طلبك إلى الله عز وجل.. لا تطلب شيئاً فيه مصلحةٌ لك إلا من الله عز وجل..
هل هناك فرقٌ أن يقال: "إِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ ".. أو يقال: لربك فارغب؟ أيهما أبلغ؟
"إِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ ".. أبلغ بلا شك لأنها تعبير القرآن..
فما الفرق بين أن يقال (لربك) فارغب أو يقال (إلى ربك فارغب)؟؟
الفرق كبير: إلى.. ماذا تفيد؟ ما معناها؟
لأن إلى.. تفيد الغاية..
إذن نقول: اطلب مطلوباتك.. واجعلها تنتهي إلى الله عز وجل جعلها تنتهي إلى الله انتهاءً تاماً.. لا تنتهي إلى غيره..
هذا يُستفاد كله من (إلى) التي تفيد الغاية.. بحيث تجعل مطلوباتك.. تنتهي إلى الله عز وجل.ز وتكون عُلْقَتُك التامة بربك عز وجل..
إذا كان كذلك.. فإن الآية الكريمة.. تشير إلى معنىً عظيم معنىً هو شرط في كل عبادة.. وأساسٌ في كل طاعة..
ما هذا المعنى؟ الإخلاص.. تشير إلى الإخلاص..
"إذا فرغت".. "فانصب".. واجتهد في أعمالك.. لكن ليكن ذلك كله مُخلصاً لله عز وجل "وإلى ربك".. "فارغب"..
إذن.. تضمنت الآية ما أشرت إليه أنها ترسم منهج الإنسان في جِدِّه واجتهاده.. واستثماره لوقته.. وأن هذا لابد أن يكون مُخلَصاً لله عز وجل..
هذه السورة.. وإن كانت في خطاباتها موجهة بضمير الخطاب للنبي عليه الصلاة والسلام ولكن هي لكل أحد.. لأن القرآن للناس، وهدىً للمؤمنين، وهدىً للمتقين، فهي سورة عظيمة..
نختم بتقييد بعض الفوائد من هذه السورة..
مما يستفاد من هذه السورة المباركة:
(1) نعمة الله تعالى على العبد بشرح الصدر، وشرح الصدر كما مضى- له أسباب، وذكرت أن ابن القيم ذكر أولها وأعظمها التوحيد.. توحيد الله عز وجل..
وأيضاً.. من باب تتميم الفائدة.. ارجع إلى الأسباب التي ذكرها ابن القيم في زاد المعاد في الجزء الثاني حتى تقف على أسباب شرح الصدر..
أيضاً.. مما يستفاد من هذه السورة الكريمة.. ما أشرنا إليه في أثناء الشرح.. وهو:
(2) عِظَم الذنب بقدر عظمة الله في قلب العبد.. وهذه واضحة.. فالمؤمن المتقي يرى ذنوبه كالجبال التي توشك أن تقع عليه.. أما المتساهل والمنافق.. فكيف يرى ذنوبه؟ كالذباب الذي وقع على أنفه فقال به هكذا ثم طار..
يستفاد من هذه الآية الكريمة:
(3) إن رفعة الذكر.. مِنّة من الله على عبده..
إذا كان كذلك..
هل يُشرع للإنسان أن يدعو برفعة الذكر.. أو أن يسعى ليعمل ما يُرفَع به ذكره هل يُشرع هذا؟
نقول: يُشرع نعم.. إذا كانت رفعة الذكر مِنّة من الله عز وجل فاطلبها.. اطلبها بأسبابها الشرعية أيضاً.. لا رياءً ولا سمعة..
ومن أسباب رفعة الذكر الشرعية.. [1] الدعاء..
بماذا دعى أبونا إبراهيم عليه السلام في دعواته في سورة الشعراء؟
"وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ ".. يعني اجعل لي لساناً يذكرونني فيه في الآخرين.. فاستجاب الله دعوته.. فصار ذكره مشهوراً مُسطراً ومقولاً..
وكذلك غيره من الصالحين العارفين يسألون هذا أيضاً مما يرفع به الإنسان الذكر:
[2] العمل الصالح الذي يكون بعده، سواء كان عمل خيرٍ مالي، أو عمل خير معنوي بعلم وتعليم وتأليف.. كل هذه من أسباب رفعة الذكر..
من فوائد السورة الكريمة:
(4) تيسير الله عز وجل العسير، حيث جعل مع كل عُسر يُسرين..
وأؤكد على ما قلته أيضاً أن التيسير هذا نسبي.. قد يتأخر لفترة يقتضيها المقام..
أيضاً.. من فوائد السورة الكريمة..
(5) ندب الشارع على الجِدّ في الأمر وعدم التواني..
من أين تؤخذ؟ من قوله: "فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ "..
أيضاً من فوائد السورة:
(6) أهمية وعظم شأن الإخلاص في كل الأعمال..
وهذه مأخوذة من قوله: "وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ "..
هذه جملة من الفوائد.. نسأل الله تعالى أن ينفعنا وإياكم بكلامه إنه على كل شيء قدير..


التعليقات ( 0 )

جميع الأوقات بتوقيت جرينتش +4 ساعات. الوقت الآن هو 02:34 مساءً الخميس 19 مايو 1446.