الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين..
نسأل الله سبحانه وتعالى التوفيق في هذه الدورة وفي غيرها.. ونسأله العلم النافع والعمل الصالح..
أما بعد.. فمن دروسنا في هذه الدورة هو درس التفسير، ولا يخفى على الجميع.. أهمية التفسير.. لأنه تعامل مع كلام الله عز وجل..
فالإنسان عندما يقرأ في التفسير إنما يقرأ ويتدارس ويتباحث في معاني كلام ربه الذي خاطبه به، والذي قبل ذلك أنزله على نبيه محمد $..
ثم وقع الاختيار على: المفصل بل على قصاره..
المفصل:
على ما دلت به السنة.. يبدأ من سورة ق إلى آخر القرآن..
وسمي بالمفصل لكثرة الفواصل، لأن آيات هذا الجزء من كتاب الله.. قصيرة في الغالب، وبالتالي تكثر الفواصل.. فسمي هذا الجزء بالمفصل.
ثم هذا المفصل -أيضاً- مقسم إلى أقسام ثلاثة، مقسم إلى طِوَال وإلى أواسط وإلى قصار..
- أما طواله: يبدأ من ق إلى سورة عمّ..
- وأما أواسطه: يبدأ من عمّ إلى سورة الضحى..
- أما قصاره: وهي محل البحث والدرس فإنها من الضحى إلى آخر القرآن.
وهذا القِصار: الناس يحتاجونه؛ لأنه في الغالب أن هذه السور محفوظة من العامي وشبه العامي، وأيضاً يحتاجونه في قراءتهم في الصلاة.. فلذلك ينبغي العناية به.
لأن الإنسان إذا قرأ جزء يفهم معناه، ويعرف ما فيه فإن هذا أدعى إلى خشوعه والانتفاع به..
وبداية الدرس في هذا اليوم.. من سورة الضحى..
سورة الضحى
هذه السورة تسمى بهذا الاسم (سورة الضحى) وبعضهم يضيف عليها الواو فيقول: سورة والضحى.. نظراً للبدء في أول آية منها..
والأمر في ذلك يسير.. إن قلت سورة الضحى أو قلت سورة والضحى.. فكلاهما اسمان لهذه السورة..
واعلم أن: هذه السورة مكية.. بلا خلاف..
ومن باب التذكير:
- المكي: هو ما نزل قبل الهجرة.. قبل أن يهاجر النبي عليه الصلاة والسلام إلى المدينة.
- المدني: هو ما نزل بعد الهجرة.
وهذا هو المُرَجح في تعريف المكي والمدني.. أن الاعتبار بالزمان.
فعلى هذا.. لو نزلت سورة في مكة لكن بعد الهجرة.. فإنها تُلحق بالمدني.. لأن العبرة بالزمن.
وهذه السورة أيضاً ثبت أن لها:
سبب نزول:
ومعرفة سبب النزول.. كما سيأتيك إن شاء الله في كلام شيخ الإسلام في مقدمة التفسير يورث العلم..
فمعرفة المُسَبَب يورث الإنسان معرفة السبب، يعني أن الإنسان يتضح له.. معنى الكلام، ويستبين مراميه إذا أدرك سبب النزول..
فسبب النزول مهم في معرفة الآيات والسور إن كان ثمة نزول.. وإن لم يكن فلا يتكلف الإنسان بحثاً.. لأن القرآن منه ما له سبب.. ومنه ما ليس له سبب..
أما سبب نزول هذه السورة:
فإنه فترة الوحي، يعني: انقطاع الوحي.. فإنه ثبت أن الوحي انقطع عن النبي $ لفترة على خلاف في طولها.. والناس في هذه المدة مختلفون اختلافاً كثيراً:
- فقد قيل إن فترة الوحي دامت ثلاث سنوات..
- وقيل بل سنتين ونصف..
- وقيل (وهو الراجح) أنها أيام؛ أيام لم تتجاوز الخمسة..
هذا الذي دل عليه الحديث الثابت في الصحيحين عن النبي $ أنه فتر الوحي لليلة أو ليلتين، ثم لا يخفاكم أن المشركين يستغلون هذا.. يستغلون ما يُضايقون به النبي عليه الصلاة والسلام..
فقد ثبت أن أم جميل المعروفة بزوجة أبي لهب.. كانت تُعَيِّرْ النبي عليه الصلاة والسلام وتقول: مالي أرى شيطانك لا يأتيك.. وتعني بذلك الوحي الذي يأتيه من السماء..
فاهتمَّ النبي $ لذلك، ولحقه ما يلحق البشر من قلق وشدة حتى فَرَّج الله له وأنزل: "وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3)".
والحديث في هذا كما أشرت في الصحيحين، وفيه روايات كثيرة، وفي بعضها اختصار وفي بعضها طول إلا أنها تنتهي إلى هذا الشيء.. أنها بَيَّنَتْ سبب نزول هذه السورة، وهي فترة الوحي عن النبي عليه الصلاة والسلام..
هذه السورة ابتدأها الله عز وجل بهذا القَسم، فقال: "وَالضُّحَى(1)"..
فالواو هنا.. للقَسم.. والله سبحانه وتعالى يُقْسِم بما شاء من خلقه وغيره..
والله تعالى هنا أقسم بالضحى.. وأقسم في موطن آخر.. بالشمس، وأقسم بالعصر، وأقسم بالسماء.. وبأشياء كثيرة معروفة.. وربما أقسم بنفسه سبحانه وتعالى.. "فَوَرَبِّكَ "..
فالله سبحانه وتعالى.. يُقْسِم بما شاء: فقد يُقْسِم بذاته وقد يُقْسِم بشيء من خلقه..
أما المخلوق فإن قَسَمَهُ لابد أن يكون بالله عز وجل.. أو بصفةٍ من صفاته، لقوله عليه الصلاة والسلام: (من كان حالفاً فليحلف بالله).. فالقسم بغير الله من المخلوق لا يجوز..
فالله سبحانه وتعالى ابتدأ السورة فقال: "وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ"..
فما معنى قوله: "وَالضُّحَى"؟
الضحى: هو الفترة الزمنية المعروفة، الفترة الزمنية التي تكون أول النهار إلى الظهر.. أو إلى قبيل الظهر.. كله ضحى..
ولا يخفاك.. أن هذه الفترة.. أنها فترة النشاط.. وفترة الحيوية.. وفترة طلب الرزق.. وهي فترة مباركة، ولذلك:
الجادون يستغلونها في طلب العلم أو تحصيل الرزق.. أما غيرهم فربما فَوَّتَ هذا الزمن المبارك الذي هو أول النهار.. فقال الله تبارك وتعالى.. "وَالضُّحَى"..
وقال: "وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى(2)"..
بِمَ نُفسر "إذا" هنا؟ هل هي شرطية؟
لا، "إذا" هنا بمعنى حين أو بمعنى وقت.. يعني والليل حين سجى أو وقتَ سجى..
فـ (إذا) هنا ليست شرطية لأن الشرطية لها شروطها وليس هذا موضعها.. فإذا هنا وقت..
فتبين لك الآن:
أن الله أقسم بالليل.. ولكن في هذه الحال، في هذا الظرف؛ في وقت سجى..
فما معنى قوله تعالى: " إِذَا سَجَى "؟
كلمة (سجى) فيها كلامٌ كثير للسلف.. حينما فسروا سجى ذكروا أشياء كثيرة..
(1) فبعضهم فسر "سجى" بمعنى سكن.. والليل إذا سجى، والليل إذا سكن.
(2) وبعضهم فسرها إذا أقبل.. "وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى" والليل إذا أقْبَلَ.
وكل هذه وغيرها مما ذكروا مُحتمِل في الآية.. إلا أننا نختار مما ذكروا ما يكون أجمع في المعنى..
فنقول: "وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى" يعني إذا أقبل وسكن..
والليل بهذه الصورة إذا أقبل وسكن.. لاشك أن الإنسان يجد هيبة له.. ولذلك ربما الإنسان من شدة هيبته لليل في هذه الحال، ربما انتابه شيءٌ من الخوف.. لأنه نُقَلة جذرية في حياته، فبينما كان في ضوء الشمس يُبصر ويدخل ويخرج، إذا هو بالليل يسجو.. يعني يُقبل ويسكن.. فالإنسان يجد هيبة لذلك.
ولذلك مما يُشْرع في هذا الوقت.. أن الإنسان يلجأ إلى الله عز وجل ويشتغل بما يُسمى بأوراد المساء.. والمساء يبدأ قبل ذلك.. لكن الليل ذِروة المساء..
قال الله تبارك وتعالى: "وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى(2)" ثم يأتي جواب القسم.. "مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3)".. هذا جواب القسم..
أقسم الله تعالى على هذه القضية.. ما هذه القضية؟ أن الله تعالى ما ودعه؛ أي ما ودّع النبي عليه الصلاة والسلام، قال: "وَمَا قَلَى" أي: وما قلاه..
فما معنى ودعك؟ وما معنى قلاك؟
الوداع في قوله: "مَا وَدَّعَكَ" بمعنى: الترك..
"مَا وَدَّعَكَ" يعني ما تركك..
وقوله: "وَمَا قَلَى" القِلَى بمعنى: الترك مع البغض أو ترك الشيء بُغضاً له..
إذن.. نفى الله سبحانه وتعالى الأمرين:
- نفي التوديع.. بمعنى الترك..
- ونفي القِلَى.. وهو الترك عن بُغض..
يُفهم من الآية.. أن النبي عليه الصلاة والسلام عُيّر ولُمِزَ بأمرين:
- فمنهم من قال: إن الله تعالى وَدّع نبيه يعني تركه..
- ومنهم من قال: إن الله تعالى قَلَى نبيه..
فنفى الله تعالى الأمرين.. نفى أن يكون قد وُدِّع أي تُرك، ونفى أن يكون قُلِيَ يعني تُرِكَ عن بغض وعن عدم إرادة منه سبحانه وتعالى لهذا النبي الكريم..
الآن: ما الفرق بين الأمرين.. ما الفرق بين التوديع والقِلَىَ؟
الفرق كما عرفت:
أن الأول: تركٌ مجرد.
أما الثاني: تركٌ مع كُره لهذا الشيء..
إذن.. القضية اتضحت الآن..
والله سبحانه وتعالى عالج ما واجهه النبي $ بهذا القسم "وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3)"..
ثم ذكرت السورة أمراً آخر.. يتعلق بالنبي $ قال: "وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَى"..
هذا بيانٌ للنبي $ أن: الآخرة خيرٌ من الأولى..
وهنا.. في قوله: (الآخرة).. وفي قوله: (الأولى):
هنا معنيان يتبادران للذهن:
الآخرة: يتبادر للذهن الدار الآخرة.. يعني ما أعده الله تعالى لنبيه في يوم القيامة، في الجنة..
ثم الأولى: تُقابل بالآخرة فيُراد بها الدنيا..
يعني: ما عند الله سبحانه وتعالى في الآخرة خيرٌ لك مما أنت فيه من هذه الدنيا..
وهذا المعنى لا إشكال فيه، وهو معنىً صحيح، وهو: أن ما عند الله تعالى لنبيه $ في الآخرة خيرٌ له من الأولى.. لأن الأولى: دار امتحان واختبار ومجاهدة للنفس وللعدو.. لاشك أنها ستكون الآخرة أحسن منها لأنها ستكون الآخرة دار الجزاء لهذا العمل الكثير الذي بذله عليه الصلاة والسلام..
أقول: إن هذا المعنى لا إشكال فيه.. ولنا أن نذكر معنىً آخر: معنىً جديداً للآيات الكريمة حتى تكون الآية بأتم وأعمّ معنى، فنقول:
إن الآخرة، والأولى.. هذا وصفان لم يُقيدا بالدار، ما قيل: ولا الدار الآخرة خيرٌ من الدار الأولى.. فعليه نقول:
إن الآخرة والأولى.. وصفين يصح أن يكونا لكل حال تتعلق بالنبي $.. فنقول أن:
الآخرة: الحال الآخرة والصفة الآخرة أكمل من الصفة الأولى التي كان عليها النبي $..
على هذا المعنى.. تكون هذه الآية.. تدل بدلالة واضحة أنه عليه الصلاة والسلام.. يتنقل من حَسنٍ إلى أحسن في كل شيء.. لأن الله تعالى قال: "وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَى"..
يعني.. حالك الثانية خيرٌ من الأولى؛ وحالك التي تلي أحسن من الحال القائمة..
وتوضيح هذا بالمثال:
حال النبي $ في مكة هي الأولى وحال النبي $ في المدينة هي الأخرى..
نقول: حالك في المدينة وهي الآخرة أكمل وخيرٌ من حالك في مكة..
كيف ذلك؟
كان في مكة: مستضعفاً، مستخفياً، أتباعه قِلّة.. ثم لما انتقل إلى المدينة: كان بعكس ذلك: كانت دعوته أشمل، وكان أتباعه أكثر، وهناك أقيمت الصلوات علانية وأقيمت سوق الجهاد.. إلى غير ذلك..
إذن.. حاله في مكة أقل ذلك، وحاله في المدينة أكمل، إذن.. هذا ندخله في الآية فنقول: وللآخرة من أحوالك خير لك من الأولى من أحوالك..
وهذا مثال.. وقل في كل حالين صارتا للنبي $ فحاله بعد شرعية القتال أكمل من حاله قبل الشرعية.. فحاله بعد بدر مثلاً- أكمل من حاله قبلها.. كيف ذلك؟
بعد بدر أعز الله تعالى الدين، حتى سمي يوم بدر بيوم الفرقان، وانقسم الناس بعد هذه الغزوة إلى مؤمنين واضحين وإلى منافقين.
كذلك ما في هذه الغزوة من مثوبة الله عز وجل حتى قال لأهل بدر: (اعملوا ما شئتم فإني قد غفرت لكم..)..
كل هذه كمالات حصلت للنبي $..
وهذا: لك أن تطبقه على كل شيء في سيرته العطرة، فإن حاله الآخرة أكمل..
وهذا أيها الأخوة: يدلك على عناية الله جل وعلا وتكريمه لهذا النبي الكريم، وأن شأنه عظيم عند الله جل وعلا حيث يُنقله من حسنٍ إلى أحسن..
قال الله تعالى: "وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5)" عدنا للقَسَمِ مرة ثانية..
"لسوف يعطيك" اللام هذه واقعة في جواب القسم.. والتقدير: والله لسوف يعطيك ربك.. هذا قسمٌ من الله تعالى أنه سوف يُعطي نبيه، قال: "يُعْطِيكَ رَبُّكَ".. "فَتَرْضَى "..
إذن: سوف يعطيه عطاءً يرضيه..
لكن.. ما هذا الذي سوف يعطيه ؟ هل بيّنت الآيات شيئاً؟
ما بيّنت الآيات شيئاً.. فتبقى الآيات عامة، سوف يعطيك ربك أشياء كثيرة في الدنيا والآخرة، لكن وصفها.. أنها ترضيك.. "وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى "..
لسوف يعطيه ربه سبحانه وتعالى.. هذا القرآن الذي هو: نور، وهدى، وشفاء لما في الصدور..
وكذلك قبلها: النبوة.. وقد حقق هذا سبحانه وتعالى..
وكذلك سوف يعطيه الأتْبَاع.. الذين يُباهي بهم الأنبياء يوم القيامة.. هذا أيضاً داخلٌ في الآية..
أيضاً.. سوف يعطيه.. الكوثر.. "إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ".. هذا أيضاً داخلٌ في الآية..
كل هذه خيرات وأمور أعطيها النبي عليه الصلاة والسلام لكن.. هل سيُعطى شيء آخر من أمور الدنيا؟
نقول أيضاً لا مانع أن يدخل في الآية ما يعطيه الله تعالى من أمور الدنيا التي يستعين بها على أمور الدين..
قال الله تعالى: "وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ"..
وقفة مع: "يُعْطِيكَ رَبُّكَ "..
ولم يقل ولسوف يعطيك الله، أتى.. اسم الرب "يُعْطِيكَ رَبُّكَ ".. وفي هذا إشارة واضحة إلى عناية الله سبحانه وتعالى بهذا النبي الكريم.. لأن الرب.. فيه معنى التربية.
والتربية هي التنشئة والتطوير شيئاً شيئاً، إذن.. سوف يعطي الله تعالى نبيه ما يرضيه..
ننتقل بعد ذلك.. إلى هذا الاستفهام الموجه للنبي عليه الصلاة والسلام ..
قال الله تعالى: " أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى (6) ".. هذا استفهام..
ما معنى هذا الاستفهام؛ هل هو إنكاري أم تقريري؟
هو.. تقريري.. لأن النبي عليه الصلاة والسلام يعرف هذا لكن الله تعالى.. يقرره، مثل قوله تعالى: " أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ " هذا تقرير أي قد شرحنا لك صدرك وكذلك هنا.. "أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً "..
ما المراد بهذا التقرير؟
المراد بهذا التقرير بيان منّة النبي $ على نبيه في الأحوال التي ستأتي.. قال الله تعالى: "أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى ".. يعني: قد وجدك يتيماً.. فآوى..
فمن هو اليتيم؟
اليتيم في الشرع وكذلك في اللغة أيضاً-: من مات أبوه قبل البلوغ، عُلِمَ بهذا أنه لا يُتمَ بموت الأم..
فإذا كان الأب موجوداً فإنه لا يكون يتيماً..
قد تقول: كيف هذا؟ الأم هي التي تحنو على صغيرها، وتقربه وتراعيه، ثم إذا ماتت لا يكون يتيماً!!
نعم.. لا يكون يتيماً.. هو الآن فقد الجانب الحاني في حياته لكنه ليس بيتيم، فاليُتم لمن مات أبوه..
- من مات أبوه وهو بالغ؛ يبلغ مثلاً (30) سنة؛ هل هو يتيم؟ لا يكون يتيماً..
- هل لا يُرْحَمْ؟ نقول: يُرحم لكن لا يُرحم رحمة اليتيم؛ يُرحم رحمة عموم المؤمنين..
أحياناً نسمع يقال: فلان يتيم الأبوين؛ هل هذا صحيح؟
نقول: لا؛ يتيم يعني يتيم بالأب، وكونه يتيم الأبوين لا تصح؛ إلا إذا أريد يتيم الأبوين يعني فاقد الأبوين، فهذا شيء آخر..
قال الله تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام: "أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً"، قال: "فَآوَى "..
لما كان يتيماً عليه الصلاة والسلام آواه الله تعالى يعني يَسّرَ له من يسكن إليه ويرجع إليه.. لأن: الإيواء هو الرجوع..
فيَسّر الله تعالى لنبيه من يرجع إليه..
يرجع لمن؟
يَسّر الله له في أول الأمر.. جده عبد المطلب.. فصار كافلاً له، ثم مضى ما شاء الله له أن يمضي، فتُوفي عبد المطلب فكفله عمه أبو طالب.. ثم استمر عنده ما شاء الله له أن يستمر..
إذن هذا هو المشار إليه في قوله تعالى: "فَآوَى ".. وتعلمون أنه عليه الصلاة والسلام توفي أبوه عبد الله وهو جنين في بطن أمه..
وبعضهم يقول توفي بعد ولادته بيسير، لكن المشهور أنه حملٌ في بطن أمه عليه الصلاة والسلام.
قوله تعالى: "أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى".. هذه مِنّةٌ من الله تعالى لنبيه أن هيأ له من يؤيه..
الأمر الثاني:
قال: "وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى"..
كان عليه الصلاة والسلام ضالاً، فقيّض الله تعالى له الهداية..
والضلال هنا بمعنى: عدم معرفة الطريق على جهة التفصيل.. ولا يُفهم من هذا أنه كان عليه الصلاة والسلام أنه كان على فسق أو شرك أو ما أشبه ذلك أبداً.. كان على التوحيد عليه الصلاة والسلام لكن لم يكن عنده بيان للشريعة على جهة التفصيل؛ كما قال تعالى: "مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ".. هذا هو الضلال الذي كان عليه النبي $..
قال الله تعالى: "فهدىَ" فهداه ربه..
هداه ربه بهذا الوحي الذي أوحاه إليه..
الأمر الثالث:
قال: "وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى"..
كان عائلاً.. يعني كان فقيراً عليه الصلاة والسلام فأغناه الله تعالى.. قال: "فأغنى" فقيّض الله تعالى له ما يَسُدُّ حاجته..
والإغناء هنا المذكور في الآية:
هل هو إغناء القلب أم إغناء البدن؟ أو يشمل الاثنين؟!!
يشمل الاثنين:
- فأغناه الله تعالى إغناءً قلبياً.. على حد قوله عليه الصلاة والسلام: (إنما الغنى غنى القلب)..
- وأغناه أيضاً غناءً بدنياً.. فقيض الله تعالى له مصدر رزق في تجارته مع خديجة وفي أشياء أخرى ساقها الله تعالى إليه..
هذه منّةٌ ثالثة..
نعود لهذه الأمور الثلاثة، وتلحظ أن الله تعالى قال:
يتيماً...... فأوى..
ضالاً..... فهدى..
عائلاً..... فأغنى..
والتقدير:
فأوى يعنى فآواك
وهدى يعني هداك
وأغنى يعني أغناك..
هذا هو التقدير المشهور الواضح، ولكن نقول أيضاً:
هذا الحذف في الآية الكريمة لا نقصره على ما ذكرت آواك، هداك، أغناك.. بل نقول:
إن الله تعالى آواك وآوى بك: فصار النبي $ مرجعاً وسكناً لغيره.. آواه الله تعالى.. فهيأ له من يقوم على شئونه.. وكذلك:
آوى به.. فكان من يفقد من يُعينه ومن يقوم على مصالحه كان يأوي إلى النبي عليه الصلاة والسلام ولعل من أقربها مثالاً: أن بعض أبناء عمه كانوا يأوون إلى النبي عليه الصلاة والسلام لأن: أبا طالب كان رجلاً كثير الأولاد، قليل المال، فأخذ بعض أولاده على ما ذُكِرَ في السيرة وآواهم عنده.. ثم كذلك:
لما مَنّ الله تعالى عليه بالوحي.. صار الناس يأوون إليه يرجون ما عنده..
إذن: انتبه للمعنى الجديد في الآية: أن الله تعالى آواه لشخصه، وآوى به..
كذلك: "وَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى".. نقول:
هداك الله عز وجل وهدى بك وأخرجت أمة تعبدُ الله عز وجل.
كذلك: "وَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى":..
أغناك في نفسك وأيضاً أغنى بك غيرك، أغنى بك حتى إن بعضهم أصبح من الأثرياء بسبب النبي عليه الصلاة والسلام وأقربها مثالاً:
ما كان يعطيه للمؤلفة قلوبهم.. يعطيهم العطايا الكثيرة أعطى رجلاً غنماً بين جبلين.. فهذا إغناء.. إغناء وزيادة.. وأحواله في بذل المال وكرمه عليه الصلاة والسلام شيء كثير..
قال الله تبارك وتعالى: "فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ "..
لما بيَّنَ نعمته سبحانه وتعالى على عبده وَجّه له هذه الأمور قال:
أما اليتيم فلا تقهر... هذه نربطها مع قوله: ألم يجدك يتيماً فآوى..
"أما اليتيم فلا تقهر"؛ اليتيم الذي عندك خبر من حاله، لأنك كنت يتيماً؛ والإنسان إذا جرب الشيء يكون أخبر الناس به وأعلمهم به..
إذن: لما ذُقتَ اليُتم.. اليتيم لا تقهر.. أياً كان هذا اليتيم سواء كان من أقاربك من أهلك، أو كان من عموم يتامى المسلمين..
فما معنى قوله تعالى: "فَلَا تَقْهَرْ "؟
معنى لا تقهر: يعني لا تغلب، ولا تُذل..
اليتيم لا تغلبه مُذِلاً له..
هذا معنى اليتيم..
كلمة (تقهر).. يُفهم منها: حظ النفس.. فنقول:
لا تقهر يعني لا تغلب مُذِلاً مراعياً حظ نفسك..
والمعنى الأخير مراعياً حظ نفسه.. هذا مهمٌ..
على هذا:
هل تزجر اليتيم؟
الله تعالى قال: لا تقهره فهل تزجره، هل تنهره، هل تضربه؟!!
نقول: يُضرب، ويُزجر، ويُنهر أيضاً إذا كان في ذلك مصلحة له.. إذا كان يُؤدب.. لكن القهر.. لا تقهره أبداً..
فلو قال: أقهره لتأديبه.. فنقول: لا، ليس هناك قهر للتأديب هناك زجرٌ للتأديب، هناك ضرب للتأديب؛ أما القهر.. فليس عندما قهر للتأديب.. لماذا؟
لأننا.. قلنا في معنى القهر: تغلبه مُذلاً مراعياً حظ نفسك هذا هو القهر..
فالقهر لا يمكن أن يكون تأديباً.. لأنك: تُذِل.. تراعي حظ نفسك..
إذن: اليتيم الذي نُهيَ في حقه أنه يُقهر بمعنى لا يُغلب ولا يُذل يراعي بذلك الإنسان حظ نفسه..
إذن: نقول: بأن الله تعالى.. نهى عن قهر اليتيم.. ولم ينه عن ما سوى ذلك.. لأن سوى ذلك قد تقتضيه مصلحة.
قد يكون من المصلحة أن اليتيم يُزجر.. فيُقال اترك كذا.. اسكت، قُمْ عن هذا المكان.. وقد يُضرب أيضاً، ويُوجع بعصاً وغيره.. لأن هذا من مصلحته..
إذن.. تأمل سرّ الله سبحانه وتعالى.. في معاملة اليتيم أنه لا يُقهر..
غيره.. هل يباح قهرهُ؟
لا يُباح.. لكن اليتيم على الأخص، لأن اليتيم لا ناصر له فقال الله تعالى: "فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ "..
إذن.. انتهينا من معنى الآية وهي: تحريم الله تعالى قهر اليتيم..
قال: "وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ "..
السائل لا تنهره.. نربطها بأي جملة سبقت؟!! نربطها بقوله تعالى: "وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى"..
الضلال قد ذاقه النبي عليه الصلاة والسلام وَمَرَّ به.. في مرحلة من مراحله.. فقال الله تعالى: "وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ "..
وسبب السؤال الذي يحمل صاحبه عليه.. سببه الضلال.. فقال تعالى: "وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ "..
إذن ربطها بالجملة السابقة: أن الحامل على السؤال هو الضلال.. الضلال فيما يحتاجه إن كان في علم.. يحتاج أن يبين له كذا، وأن يبين له أن هذا حلال وهذا حرام.. فهو يسأل لأنه ضال في المسألة..
قال الله تعالى: " فَلَا تَنْهَرْ " يعني لا تُعَنِفْ السائل لأنه يريد ما عندك.
سائل المال.. هل هو ضال؟ نقول: نعم.. سائل المال عنده ضلال.. كيف ذلك؟ حيث أنه ضل سبيل الكسب؛ أو أضله سبيل الكسب..
فسائل المال عنده ضلال..
إما أنه ضل سبيل الكسب.. متى يضل سبيل الكسب؟ إذا كان قادراً عليه..
أو يُضِلُه سبيل الكسب.. إذا كان غير قادر.. مثلاً: إنسان أصابه الفقر لأنه مقعد.. هذا أضله سبيل الكسب، لأن سبيل الكسب يحتاج إلى قوة وحركة ومجيء وهذا أضله سبيل الكسب..
هذا كله.. نريد أن نربط الآية بقوله: "وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى"..
على كلٍ.. السائل هذا.. لا تنهره.. بل أعطه سؤله من الدلالة إن كان سؤال علم، ومن الصدقة والهدية إن كان سؤاله سؤال مال.. قال الله تعالى: " فَلَا تَنْهَرْ "..
س: إذا كان ما عنده ما يُعطيه، فبماذا يؤمر؟
يُؤمر بما قال الله تعالى: لا تنهر..
فلا يلزم من قوله تعالى: " فَلَا تَنْهَرْ ".. لا يلزم منه الإعطاء.. لكن: إعطاءه وعدمه هذا حسب الحال..
لكن: الذي لا يُغفل ولا يُتساهل فيه أنك تنهره..
ثم قال الله تعالى: "وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ "..
أما بنعمة الله سبحانه وتعالى التي مَنَّ بها عليك، فحدِّث.. أخبر، تكلم مع كل أحد.. بهذه النعمة..
فما هي النعمة التي كانت عند النبي عليه الصلاة والسلام؟
كثيرة، من أعظمها: نعمة النبوة: هذه نعمة تحدث بها وبيَّنَ فضل الله تعالى بها عليك، وبلغها..
كذلك.. من نعمة الله تعالى.. هذا القرآن..
كذلك من نعمة الله تعالى.. ما هيأه له ولأصحابه من الفتوحات والنصر والتمكين كل هذه من نعم الله..
قال: " فَحَدِّثْ ".. يعني أخبر بها..
وهذا الإخبار الذي أُمِرَ به النبي عليه الصلاة والسلام لاشك مربوط حسب الحال وما تقتضيه الحكمة، وإلا فإننا لم نعلم من هديه عليه الصلاة والسلام أنه عقد مجالساً يُحَدِّثْ تحديثاً مباشراً بالنعم.. ويقول: أعطاني ربي كذا وكذا.. ويُملي على من يحضره بالنعم..
لكن: التحديث متروك لمقتضى الحال..
- فإذا بلغ الرسالة.. كان هذا من التحديث بنعمة الله لاشك..
- إذا قرأ على أصحابه شيئاً من القرآن.. كان هذا من التحديث بنعمة الله..
- إذا أخبر بحاله الأولى وأنه كان كذا وكذا حتى مَنَّ الله عليه بما مَنَّ هذا من التحديث بنعمة الله..
هذه الآية والتي قبلها أيضاً كلها كما لا يخفاك- موجهة للنبي عليه الصلاة والسلام ولكنها أيضاً لأتباعه الذين اختاروا طريقه لأن العبرة بعموم المعاني..
(العبرة بالعموم.. والتخصيص في الآية إنما هو للتشريف)
لا يعني بحال من الأحوال أن السورة خاصة به عليه الصلاة والسلام بهذا انتهت هذه السورة إجمالاً..
ونعود لنقيد أهم ما يكون من فوائدها:
لأن المقصود: الانتفاع والاقتداء بالقرآن الكريم..
من فوائد الآيات الكريمة:
(1) عناية الله سبحانه وتعالى بنبيه الكريم عليه الصلاة والسلام.
-ومن فوائد الآيات:
(2) عِظَمُ الوحي وأهميته.. لأن الله تعالى أقسم عليه.. "وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى" "مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى".. يعني بالوحي الذي فتر.. فدلّ على عِظم الوحي وأهميته..
-ومن فوائد الآيات:
(3) كما حال النبي $ حيث كان يترقىَ من حسنٍ إلى أحسن.. هذا على معنى العموم.. في وللآخرة خيرٌ لك من الأولى..
أما على المعنى الأولىَ فالفائدة واضحة: وهي:
(4) عِظَم ما للنبي $ عند ربه..
ويستفاد من هذه الآية:
(5) ما وعد الله تعالى به نبيه من العطاء الذي يرضيه..
-ومن فوائد الآيات أيضاً:
(6) بيان حاله عليه الصلاة والسلام من: اليُتم والضلال والفقر..
-ومن فوائد الآيات:
(7) أن مما يُربي به الإنسان نفسه ويربي به غيره أن يُذَكر بحاله الناقصة الأولى..
هذا واضح بحيث أنه يقال للإنسان: اذكر لما كنت كذا وكذا.. فإن هذا ادعى لشكر الله عز وجل ومعرفة ما يجب له..
-ومن فوائد الآيات أيضاً:
(8) سبق الشريعة الإسلامية في حُسن التعامل مع اليتيم.. وهذا السبق واضح.. وبهذا تعرف أن من يدّعون أنهم سابقون في رعاية اليتامى.. وإنشاء الدور لهم.. يُقال: الدين الإسلامي هو السابق في ذلك..
-من فوائد الآية الكريمة:
(9) بيان أن للسائل حقاً.. فما حقه؟ حقه أن يُجاب سؤله إما بهدايته الهدية المعنوية.. أو بإعطائه العطاء الحسن..
-ومن فوائد الآيات:
(10) مشروعية التحدث بنعمة الله.. وهذا حسب الحال..
س: هل هناك حالٌ.. يُقال للإنسان لا تتحدث بنعمة الله.. واسكت عن هذه النعمة.. اخفها؟
نقول: ربما هذا، إذا خشي الحاسد، فإنه قد يؤمر بضد ذلك ألا يتحدث.. وهذا له أدلته:
قال يعقوب لابنه يوسف: "يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْداً ".. لما رأى الرؤيا السارّة التي تدل على مقدمات عظيمة.. هي نعمة.. فقال: "لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ".. ولكن أيضاً:
احذر أن تكون في باب الكتمان موسوساً تحذر مما لا يُحذر منه.. لأن بعض الناس يخشى: أخشى العين، أخشى الحسد، أخشى كذا، فيُصبح كاتماً لنعمة الله تعالى عليه.. فيُقال لا.. تَحَدَّثْ في مقام ترجح فيه التحديث، واتكل على الله عز وجل في حفظك وصرف العيون عنك.. والله تعالى يُدافع عن الذين آمنوا..