• ×

د.عبدالرحمن الدهش

حق النفس

د.عبدالرحمن الدهش

 0  0  5.3K
زيادة حجم الخط مسح إنقاص حجم الخط

الحمد لله .

أما بعد :- فإن القلوب تمل كما تمل الأبدان فبعد تعب وجهد وعناء تميل النفوس إلى التجديد والتنويع، وترنو إلى الترويح واللهو المباح دفعاً للكآبة ورفعاً للسآمة ليعود العبد إلى ميدان عمله بهمة جديدة، ويرجع العامل إلى مصاف عطائه بنفس راضية، وهمة عالية . عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ رضي الله عنه قَالَ آخَى النَّبِيُّ r بَيْنَ سَلْمَانَ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ فَزَارَ سَلْمَانُ أَبَا الدَّرْدَاءِ فَرَأَى أُمَّ الدَّرْدَاءِ مُتَبَذِّلَةً : فَقَالَ لَهَا مَا شَأْنُكِ ؟ قَالَتْ : أَخُوكَ أَبُو الدَّرْدَاءِ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ فِي الدُّنْيَا ، فَجَاءَ أَبُو الدَّرْدَاءِ فَصَنَعَ لَهُ طَعَامًا ، فَقَالَ : كُلْ قَالَ : فَإِنِّي صَائِمٌ ، قَالَ مَا أَنَا بِآكِلٍ حَتَّى تَأْكُلَ ، قَالَ فَأَكَلَ فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ ذَهَبَ أَبُو الدَّرْدَاءِ يَقُومُ ، قَالَ نَمْ فَنَامَ ثُمَّ ذَهَبَ يَقُومُ فَقَالَ نَمْ فَلَمَّا كَانَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ ، قَالَ سَلْمَانُ قُمِ الْآنَ ، فَصَلَّيَا فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ : " إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَلِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ " فَأَتَى النَّبِيَّ r فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ النَّبِيُّ r صَدَقَ سَلْمَانُ ) . والنبي صلى الله عليه وسلم يقول لعبد الله بن عمرو رضي الله عنه : (صم وأفطر، وقم ونم ، فإن لجسدك عليك حقاً، وإن لعينك عليك حقاً ، وإن لزوجك عليك حقاً ، وإن لزورك أي : ضيفك عليك حقاً ) رواهما البخاري . فالإسلام دين السماحة واليسر يساير فطرة الإنسان وحاجاته ، فحين شاهد النبي r الحبشة يلعبون، قال: «لتعلم يهود أن في ديننا فسحة إني أرسلت بحنفية سمحة» رواه أحمد. أيها الإخوة : لسنا بحاجة إلى كثير قول في دعوة النفوس إلى الترويح واللهو المباح فمحبة الانبساط والتخلي عن روح الجد أمر فطر الله الناس عليه وهو من مقتضى ضعفهم في أبدانهم وعقولهم والمترفع عن الهزل في وقته كالهازل في وقت غير وقته . وخير الهدي للمسلم في جده وهزله هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه كان رسول الله يداعب أصحابه حتى تعجب الصحابة من مداعبته لهم وقالوا : يا رسول الله إنك تداعبنا ؟ قال: (إني لا أقول إلا حقاً ) رواه الترمذي . والنصوص الشرعية فيصل في بيان أن هذا الدين وسط وأن التوازن في حياة المسلم مطلب قال تعالى: (وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا). نعم أيها الإخوة : إن الموازنة مطلوبة بين سائر الحقوق والواجبات، فها هو الإسلام يراعي الإنسان عقلاً له تفكيره وجسماً له مطالبه ونفساً لها رغباتها وشهواتها. فلم يصادم الشرع هذه المتطلبات مجتمعة ولا متفرقة . قال ابن مسعود t: ( كان النبي r يتخولنا بالموعظة في الأيام كراهة السآمة علينا ) متفق عليه. لأن السآمة والملل يفضيان إلى النفور والضجر . وعن جندب بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:( اقرؤوا القرآن ما ائتلفت قلوبكم فإذا اختلفتم فقوموا عنه) فقوله (ما ائتلفت قلوبكم) أي ما دمتم نشطين وقلوبكم حاضرة وخواطركم مجتمعة . (فإذا اختلفتم فقوموا عنه) أي: إذا اضطرب فهمكم لمعانيه بسبب الملل فاتركوا القراءة حتى يذهب عنكم ما أنتم فيه. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كانت عندي امرأة من بني أسد فدخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال من هذه ؟ . قلت فلانة لا تنام بالليل تذكر صلاتها فقال ( مه عليكم ما تطيقون من الأعمال فإن الله لا يمل حتى تملوا) متفق عليه . يقول علي بن أبي طالب t: ( إن القلوب تمل كما تمل الأبدان فابتغوا لها طرائف الحكم)، ويقول أيضاً: (روحوا القلوب ساعة بعد ساعة فإن القلب إذا أكره عمي) . وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: ( تحدثوا بكتاب الله وتجالسوا عليه وإذا مللتم فحديث من أحاديث الرجال) . وهذا إمامهم وقدوتهم محمد r يقول: ( يا حنظلة ساعة وساعة ) رواه مسلم . والناظر في هدي السلف من الصحابة مع نبيهم صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم يدرك كيف فهموا الترويح عن النفس ؟ فهاهم يروحون عن أنفسهم فلا يتجاوز أحدهم حدود الشرع، بعيداً عن المحرمات أو المكروهات، لم يكن ترويحهم هدفاً لذاته فيتنادون له الساعات الطوال، والأيام تلو الأيام، ويحيون له الليالي بل كان ترويحهم بمقدار، كان وسيلةً لتجديد الهمة مع تصحيح النية لعمل أفضل وإنتاج أكمل فأوقاتهم محفوظة، وساعات أعمارهم هم أشح بها من الدينار والدرهم . فإذا جَدَّ الجِدُ كانوا هم الرجال كما ثبت من فعلهم أنهم كانوا يتبادحون - أي يترامون - بالبطيخ فإذا جد الجد كانوا هم الرجال. وكما قال الأوزاعي عن بلال بن سعد- يرحمهما الله-: "أدركت أقواماً يشتدون بين الأغراض يضحك بعضهم إلى بعض فإذا كان الليل كانوا رهباناً . وقال عمر بن الخطاب t :" كان القوم يضحكون والإيمان في قلوبهم أرسى من الجبال" ترويحهم وضحكهم وسمرهم وسفرهم وترفيههم لا يضعف إيمانهم ولا يفسد أخلاقهم، لا يتعدى وقتُ الترويح على أوقات الصلاة ولا يقضي على ذكر الله وصلة الرحم و عموم الطاعات. أولئك هم الرجال (رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله و إقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار) . بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم .... الحمد لله رب العالمين. فمع مرور أيام ما يسمى بالإجازة: فتأمل حديثاً عظيماً من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم لتكون على بينة من أمرك واستعداداً لنقلتك يقول r: " لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسال عن أربع عن عمره فيما أفناه وعن شبابه فيما أبلاه وعن ما له من أين اكتسبه وفيما أنفقه ".. فاستشعار ذلك عباد الله - يجعل للحياة قيمة أعلى ومعنى أسمى. عباد الله: الإجازة نعمة وقد تكون نقمة إذا لم تستثمر في طاعة أو ترويح مباح ولهو بريء أو عمل مفيد يستغرق الصباح والمساء فإن هذا الفراغ الرهيب يعد مشكلة تقلق كل أب لبيب، ومعظم فساد الأبناء من الفراغ . فهو كما قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى : (إذا لم تشغل نفسك بالحق شغلتك بالباطل ) فكم سهرة عابرة أسقطت فتى في أتون المسكرات والمخدرات وجلسةٍ عاصفة وقع البريء فيها في المهلكات . الفراغ جرثومة فساد تنتشر وتستفحل في مجتمعات الشباب فتحطم الجسد وتقتل الروح . وقد نبه النبي r إلى غفلة الكثير عما وهبوا من نعمة الوقت والعافية فقال: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ) رواه البخاري من حديث ابن عباس قال ابن بطال: (كثير من الناس) أي: أن الذي يوفق لذلك قليل أهـ. فيأخي المسلم: أمضيت غالب يومك في فراغ وراحة، وتنعمت بأنواع الطعام، وعشت السعادة ، فلا تنس غذاء قلبك بقراءة القرآن طلباً للحسنى وزيادة ، لا تبخل على كتاب الله بجزء من أربع وعشرين ساعة. ثم مضى ليلك في سهر تام، ما رأيك أن تجعل ختام ليلك ركعة تحيي في برنامجك عبادة الوتر، الذي طالما غاب عنك، وغبت عنه. ثم ما رأيك أن تبكر بالغدو لصلاة الفجر، لأنك مستيقظ فلا عذر لك، وركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها، أي: الراتبة فكيف بركعتي الفريضة؟ آخر القول: جمل الله حياتنا، وطابت أيامنا بهذا الأمن على الأنفس والأموال والأعراض أمن سابغ، وطمأنينة تامة فلا حروب ولا قلاقل، ولا مظاهرات، ولا تجمعات فاللهم إنا نعوذ من زوال نعمتك وتحول عافيتك، وفجاءة نقمتك وجميع سخطك. ألا فلنحفظ أمننا بطاعة ربنا، وقيامنا بشرعنا، ورعاية أسرنا، ومناصحة من ولاهم الله أمرنا، وبالأخذ على أيدي سفهائنا. اللهم احفظ شبابنا من تضييع أمر ربهم واجعلهم قرة عين لأمتهم وحماة لعقيدتهم .



التعليقات ( 0 )

جميع الأوقات بتوقيت جرينتش +4 ساعات. الوقت الآن هو 03:11 مساءً الخميس 19 مايو 1446.